لكنّه لم يؤمر بالاعتماد عليهم في دعوته صلّى الله عليه وسلّم .. لنا عالمنا ولهم عالمهم.
فماذا فعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك ؟
لقد شمّر عن ساعده مرّة أخرى، لينطلق إلى عُكاظ .. وكانت من أعظم أسواق العرب، يتوافد إليها الحجيج من كلّ مكان ..
فما ترك وفدا إلاّ دخل خيامهم وبشّرهم ودعاهم:
دخل على بني عبس، وبني كندة، وبكر بن وائل، وبني عامر بن صعصعة، وبني حنيفة وغيرهم ..
فكان منهم من يصرفه بلطف، ومنهم من كان يطرده بعنف، ومن شرّهم وأشدّهم له طردا: بنو حنيفة .. وكان من وراء ذلك الطّرد أكوامٌ من الوصايا والتّحذير من فتى قريش صلّى الله عليه وسلّم ..
روى ابن إسحاق عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال:
سمعت ربيعةَ بن عبّاد يحدّث أبي قال: إنّي لغلام شابّ مع أبي بِمِنًى، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقف على منازل القبائل من العرب، فيقول: (( يَا بَنِي فُلاَنٍ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ، يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَخْلَعُوا مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ هَذِهِ الأَنْدَادِ، وَأَنْ تُؤْمِنُوا بِي وَتُصَدِّقُوا بِي، وَتَمْنَعُونِي حَتَّى أُبَيِّنَ عَنِ اللهِ مَا بَعَثَنِي بِهِ )).
قال: وخلفه رجل أحول، وضيء، له غديرتان، عليه حلّة عدنيّة، فإذا فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قوله وما دعا إليه، قال ذلك الرّجل:
يا بني فلان، إنّ هذا إنّما يدعوكم أن تسلخوا اللاّت والعزّى من أعناقكم ! وتَدَعُوا حلفاءَكم من الجنّ من بني مالك بن أُقَيْشٍ[1] إلى ما جاء به من البدعة والضّلالة، فلا تطيعوه، ولا تسمعوا منه.
قال: فقلت لأبي: يا أبت، من هذا الّذي يتبعه ويردّ عليه ما يقول ؟
قال: هذا عمّه عبد العزّى بن عبد المطّلب أبو لهب !
أمّا بنو عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ وعرض عليهم نفسَه، فقال رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس:
والله لو أنّي أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ! ثمّ قال: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثمّ أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟
قال صلّى الله عليه وسلّم: (( الأَمْرُ إِلَى اللهِ، يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ )).
فقال له: أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ! لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه.
فلمّا صدر النّاس، رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كانت أدركته السنّ حتّى لا يقدر أن يوافيَ معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدّثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلمّا قدموا عليه ذلك العام، سألهم عمّا كان في موسمهم، فقالوا:
جاءنا فتى من قريش أحد بني عبد المطّلب، يزعم أنّه نبيّ، يدعونا إلى أن نمنعه، ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا.
قال: فوضع الشّيخ يديه على رأسه، ثمّ قال: يا بني عامر ! هل لها من تلاف ؟! هل لذُناباها من مطلب[2] !؟ والّذي نفس فلان بيده، ما تقوّلها إسماعيليّ قط، وإنّها لحقّ، فأين كان رأيكم عنكم ؟!.
فلمّا أراد الله عزّ وجل إظهارَ دينه وإعزازّ نبيّه وإنجازَ موعده له، خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الموسم، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كلّ موسم.
وكانت البداية برجل من همدان ..
جاء في مسند الإمام أحمد وأبي داود والتّرمذي عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنه قال:
كَانَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْقِفِ، فَيَقُولُ:
(( هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ ؟ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي عزّ وجلّ )).
فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ، فقالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( مِمَّنْ أَنْتَ ؟)) فَقَالَ الرَّجُلُ: مِنْ هَمْدَانَ. قَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( فَهَلْ عِنْدَ قَوْمِكَ مِنْ مَنَعَةٍ ؟)) قَالَ: نَعَمْ.
ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ خَشِيَ أَنْ يَحْقِرَهُ[3] قَوْمُهُ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: آتِيهِمْ فَأُخْبِرُهُمْ، ثُمَّ آتِيكَ مِنْ عَامٍ قَابِلٍ، قال صلّى الله عليه وسلّم: (( نَعَمْ )).
فَانْطَلَقَ وَجَاءَ وَفْدُ الْأَنْصَارِ فِي رَجَبٍ ".
وقبل أن نعيش ذلك اللّقاء فإنّه لا بدّ من وقفتين:
- الوقفة الأولى: وجوب خروج الدّاعية إلى النّاس.
نرى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر بأن تُنصَب له خيمة بمِنًى، أو بسوق عُكاظ، يجلس فيها وينتظر النّاس يأتونه ! بل إنّه صلّى الله عليه وسلّم كان يذهب إلى منازلهم بمنًى، يعرِض نفسه عليهم.
والعَجَب من بعض من يرتقون المنابر، لا يخرجون إلى النّاس، يدعونهم إلى الخير، ويأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر، حتّى إذا هدى الله عزّ وجلّ كثيرا من الضُلاّل إلى الحقّ بإذنه، وجاءوهم إلى مساجدهم، ما وجدوا لهم أثرا، وما سمعوا لهم خبرا !
- الوقفة الثّانية: ربط النّاس من أوّل يوم بالله سبحانه وحده.
تأمّل قوله: (( الأَمْرُ إِلَى اللهِ، يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ )) .. إنّه خطاب لمن لم يؤمن بعدُ برسالته .. ولمن لم يُقِرّ بعدُ بتوحيد الله سبحانه !
إنّه يريد أن يربطهم من أوّل يوم بمن لا يحُول ولا يزول .. لا يريد أن يربطهم بوعود كاذبة، وزخارف زائفة .. كحال كثير من الدّاعين إلى أنفسهم !