برامج مكثّفة ليس فيها لغو ولا لهو، ولا بطالة ولا عطالة، ولا تضييع للأوقات، أو تهميش للصّلوات، ولا متابعة للمباريات، ولا ارتكاب للمحرّمات، ولا تسكّع على الأرصفة للمعاكسات، وإيذاء المارّين والمارات، ولا تهافت على الأسواق ..
ولكن نشاط وقوّة، وجهاد وفتوّة، وعبادة وعزّة، وسموّ ورفعة، وتعالٍ عن حطام الدنيا، وإقبال على عمارة الآخرة.
واختاروا فصل الصّيف لأنّ الحرّ ابتلاء يميّز الصّالحين، وعقوبة للمنافقين، فليس الحرّ عائقا عن طاعة الله، ومن عاقه الحرّ عن الطّاعة ففيه شبه بالمنافقين، كما حدث في غزوة تبوك:{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81].
والحقّ أنّ ابن آدم ملول، لا يستقيم على طريقة:
يتمنى المرء في الصّيف الشتاء *** فإذا جــاء الشتــاء أنكـــــره
فهو لا يرضـــــى بحــــال واحــــد *** قتل الإنسان مـــا أكفــــره !
أمّا الصّفوة من عباد الله يرون أنّ في الحرّ غنيمة لا يليق تفويتها ..
- - معاذ بن جبل رضي الله عنه: حين حضرته الوفاة، لم يتأسّف على مال ولا ولد، ولم يبك على فراق نعيم الدّنيا، ولكنّه حزن على مفارقة قيام اللّيل، ومزاحمة العلماء بالرّكب، وعلى ظمأ الهواجر بالصّيام في أيّام الحرّ الشّديد.
- - وخرج ابن عمر رضي الله عنه في سفر معه أصحابه، فوضعوا سفرة لهم، فمرّ بهم راع فدعوه إلى أن يأكل معهم فقال: إنّي صائم، فقال ابن عمر رضي الله عنه: في مثل هذا اليوم الشّديد حرّه وأنت بين هذه الشّعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم ؟! فقال: أُبَادِر أيّامي هذه الخالية.
- - ويقول أبو الدّرداء رضي الله عنه موصياً أحبابه: صوموا يوماً شديداً حرّه لحرّ يوم النّشور، وصلّوا ركعتين في ظلمة اللّيل لظلمة القبور.
- وقد روى البزّار بإسناد حسن – كما في "صحيح التّرغيب والتّرهيب" – عن ابن عبّاس رضي الله عنهما:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم بَعَثَ أَبَا مُوسَى عَلَى سَرِيَّةٍ فِي البَحْرِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ قَدْ رَفَعُوا الشِّرَاعَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، إِذَا هَاتِفٌ فَوْقَهُمْ يَهْتِفُ: يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ ! قِفُوا أُخْبِرْكُمْ بِقَضَاءٍ قَضَاهُ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ !
فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَخْبِرْنَا إِنْ كُنْتَ مُخْبِراً.
قال: إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَضَى عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ مَنْ أَعْطَشَ نَفْسَهُ لَهُ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ سَقَاهُ اللهُ يَوْمَ العَطَشِ ..
الشّاهد أنّ فصل الصّيف فصل عمل واجتهاد، وبذل وجهاد.
الصّـائـفـة هذه الأيّام ..
إنّ أهمّ معالم الصّـائـفـة هذه الأيّام – أيّها القرّاء الكرام – مَعْلَمان عظيمان: طلب العلم، والدّعوة إلى الله تعالى.
أوّلا: طلب العلم:
فإنّ طلب العلمِ ونشره بين النّاس في كلّ حين وأوان، وخاصّة هذه الأيّام من الجهاد في سبيل الله تعالى.
والجهاد كما شُرع بالسّيف والسِّنان، فقد شُرع باللّسان والعلم والبيان.
ففي صحيح مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
(( مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ، يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ )).
ومن ذلك ما رواه أبو داود عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ )).
وإليك كلاما طيبا لابن القيّم الجوزية رحمه الله حيث قال:
"كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الذّروة العليا منه، فاستولى على أنواعه كلّها:
فجاهد في الله حقّ جهاده بالقلب والجنان، والدّعوة والبيان، والسّيف والسّنان ... أمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه وقال:{ فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً } فهذه سورة مكّية، أمر فيها بجهاد الكفّار بالحجّة والبيان وتبليغ القرآن، وكذلك جهاد المنافقين إنّما هو بتبليغ الحجّة، وإلاّ فهم تحت قهر أهل الإسلام، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [التوبة:73].
فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفّار وهو جهاد خواصّ الأمّة وورثة الرّسل، والقائمون به أفراد في العالم، والمشاركون فيه والمعاونون عليه وإن كانوا هم الأقلّين عدداً فهم الأعظمون عند الله قدراً.
ولمّا كان من أفضل الجهاد قول الحقّ مع شدّة المعارض مثل أن تتكلّم عند من تخاف سطوته وأذاه، كان للرّسل من ذلك الحظّ الأوفر، وكان لنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم من ذلك أكمل الجهاد وأتمّه،[يقصد بذلك ما بشّر به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من اقتدى به في ذلك قائلا: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ )) رواه التّرمذي وغيره]". اهـ ["زاد المعاد"(3/6)].
ويؤيّد كلام ابن القيّم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نُهِي عن قتل المنافقين، فهذا يدلّ على أنّ معنى ( وجاهد الكفّار والمنافقين ) إنّما المقصود منه الجهاد بالحجّة والبيان.
ويؤيّده أيضا رواية مسلم عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: (( لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ )).
فقد فسّر العلماء القتال هنا بما هو أعمّ من القتال بالسّيف، فقد قال البخاري في "صحيحه": " بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ يُقَاتِلُونَ )) وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ ".
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" وأخرج التّرمذي حديث الباب ثمّ قال: سمعت محمّد ابن إسماعيل – هو البخاريّ – يقول: سمعت عليّ بنَ المدِيني يقول: هم أصحاب الحديث .. وجاء نحوه عن أبي هريرة ومعاوية وجابر رضي الله عنهم، وسلمة بن نفيل، وقرّة ابن إياس " اهـ.
وأخرج الحاكم في " علوم الحديث " بسند صحيح عن أحمد رحمه الله قال: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم !
ومن طريق يزيد بن هارون مثله.
ومن لم يكن عالما يبيّن الحقّ ويردّ الباطل وكان يحسِن الكلام فليستغلّه في نصرة الحقّ، ولا يخفى على أحد ما كان يفعل شعر حسّان بن ثابت وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهما في المشركين ..
روى التّرمذي والنّسائيّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَمْشِي وَهُوَ يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ *** الْيَوْمَ نَضْرِبْكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَـــنْ مَقِيلِهِ *** وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رضي الله عنه: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ ! بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم وَفِي حَرَمِ اللَّهِ تَقُولُ الشِّعْرَ ؟!
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ ! فَلَهِيَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ )).
ثانيا: الدّعوة إلى الله.
شاع لدى أكثرنا اليوم أنّ خدمة هذا الدّين، والدّعوة لربّ العالمين، هي مهمّة الدّعاة والعلماء ، والأئمّة والخطباء ..
وإنّها لإحدى الكُبَر ..
ولتصحيح هذا المفهوم الخاطئ فإنّي أدعوك إلى تأمل نقاط ثلاث في إيجاز:
- الأولى: إنّنا ركّاب سفينة واحدة، إن هلكت هلكنا، وإن نجت نجونا، ففي الصّحيحين عن النُّعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
(( مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا ! فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا )).
- الثّانية: هذا مؤمن ( يس ) يُضحِّي بحياته .. بمجرّد أن علم الحقّ في طياته ..{ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)}..
جاء من أقصى المدينة .. مع أنّ بالقرية الّتي قصدها ثلاثة من المرسلين ..
لم يمنعه وجود الرّسل في تلك البلاد، بأن يُسهِم في الدّعوة إلى ربّ العباد .. فهل من مدّكر ؟
- الثّالثة: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ))، فهو خطاب عامّ لا يُستَثْنى منه أحد.
فـ( بلِّغوا ) تكليف .. و( عنّي ) تشريف .. ( ولو آية ) تخفيف ..
فالواقع الّذي يعيشه المسلمون اليوم – والله – كافٍ في أن ينفُض كلّنا الغبار عن رأسه، ويفدي هذا الدّين بنفسه، فمن آلامنا تبزغ آمالنا ..
يقولون: مع أيّ الفريقين تضلــــع *** فلم يبق للإحجام والصّبر موضع
فقلت: أما والله ما فـــي قلوبـنـــا *** لغير جلال الله والحــــقّ مــوضـع
فقد تصبح الدّنيا لإبليس شيعـــة *** ونحن لغـيـــر الحــقّ لا نتشـيّـع
أنعــدِل بالله العظــيــم وشــرعـــه *** أباطيل يجلوها الخـداع فتلمـــع
فأيـن إذن عهـــد قطعنـــاه لربّـــنا *** بأنّا لـه دون الخليــقـــة خُــضَّـــعُ
بلى نحن جند الله بعناه واشترى *** فلا هــو يعفينا، ولا نــحن نرجـع
وسبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك.