إنّ الرشوة قد أصبحت سببا ظاهرا من أسباب الرفاه والغنى في مجتمعنا، وأصبح أربابها يجاهرون بها ولا يستحيون، ويفتخرون بها ويعدُّون عملهم نباهة " وشطارة "[1]، الأمر الّذي جعل كثيرا من ضعفاء الإيمان يتأثّرون بهم ويحسدونهم على ما ينالونه، ويشعرون بالسّفه وضعف التّدبير إن هم لم يستغلّوا مناصبهم للحصول على الرّشاوي، الّتي يضمنون بها – زعموا – مستقبلهم ومستقبل أولادهم وأحفادهم، طبعا مستقبلهم المحدود في الدنيا دون مستقبلهم الأبدي في الآخرة.
ولقد أصبح الآن الموظفون في الإدارات الحكومية – إلاّ من رحم ربّك – في غنى تام عن مرتّباتهم، وخاصّة هؤلاء الّذين يشغلون مناصب حساسة تؤهلهم لفرض شروطهم على المواطنين (العُزَّل)، إذا ما سعوا لنيل حقوقهم الثابتة لهم أو الحقوق المشاعة.
وإنّ من مصادر رصد أنواع الرشاوي ومظانّها الأئمّة والدعاة الّذين ترد عليهم أسئلة المواطنين يوميا حول مشروعية دفع هذه الرشاوي والعمولات لهؤلاء الموظفين والمسؤولين: مواطنون مظلومون مُنِعوا من حقوق أو أُخِذت منهم حقوق ! وآخرون متطلّعون إلى نيل امتيازات، لكن حاك في أنفسهم طريقة الحصول عليها ! وغير ذلك من القضايا الّتي لا تنحصر.
لذلك أردت أن أكتب هذه الكلمات في القضية الّتي أكاد أُسأل عنها يوميا، وربّما أسأل عنها في اليوم أكثر من مرّة، أسئلة مباشرة أو عبر الهاتف.
وهذا منتخب من المسائل الّتي علِقت في ذهني وحفظتها لتكررها أو غرابتها، وهي كما يلاحظ القارئ موزعة على أكثر القطاعات والإدارات الّتي يتعامل معها المواطن.
1- يقول السائل: ما حكم ما أدفعه لموظّف في البلديّة، أو مسؤول، نظيرَ إدراجي ضمن قائمة السّكن الاجتماعي أو السّكن التساهمي ؟ وبعضهم يقول: لن آخذ حقّ أحد لأنهّم وضعوا في القوائم المعلن عنها أسماء لأشخاص وهميّين أو أشخاص لا حاجة لهم في السكن ؟
2- ويقول آخر: ما حكم ما أدفعه لموظّف في البلدية أو مسؤول حتّى أحصل على مشروع بناء، بإنجازه أنال شهادتي في الهندسة المعمارية ؟
3- يا شيخ: المقاولون لا ينالون المشاريع إلاّ بالرشوة وأنا إذا لم أدفع رشوة فسأبقى دون عمل ؟
4- ويقول كثير من المقاولين: ما حكم ما أدفعه من مال مقابل تسهيل عملية صرف مستحقاتي ؟ أنا أنتظر صرفها منذ سنتين أو ثلاث، وقد صرّحوا لي بأنّي لن آخذ حقّي إلاّ إذا دفعت لهم " قهوة ".
5- ويسأل المستوردون: ما حكم ما ندفعه للجمارك نظير تسريح سلعنا المحجوزة ظلما وعدوانا ؟ وما حكم ما ندفعه لهم نظير تسهيل عملية إخراج السلعة من الميناء وهم يتعمدون التطويل حتّى تزيد التكاليف ؟
6- ويقول آخرون: ما حكم ما ندفعه لمفتّش الجمارك مقابل عدم رفع قيمة الضّريبة ومضاعفتها ( لأنّنا لا نصرح بالقيمة الحقيقية للسّلعة المستوردة )؟.
7- ويسأل بعضهم: أنا أتعامل مع أناس يهرِّبون سلعا من البلدان المجاورة، وهم مضطّرون في أكثر الأحيان إلى دفع رشاوى إلى حرّاس الحدود ليَسْلموا من حجز السّلع والمحاكمة لأنّ التهريب مخالفة، فهل التّعامل مع هؤلاء النّاس جائز ؟
8- ويسأل أصحاب الشاحنات عن حكم ما يدفعونه لحرّاس الميناء ليتمكّنوا من الدخول، وهم يقولون: من غير دفع للمال لا يمكن لأحد أن يعمل ؟
9- إنسان سيحكم عليه في القضاء بكذا لأجل كذا، وهو نادم على فعله ؟ ويقول آخر: هو مظلوم فيما نسب إليه، وإن دفع مالا فسيبرأ من التّهمة، فما حكم مساعدته على ذلك ؟
10- ويتكرّر كثيرا هذا السؤال كما تتكرر الحوادث المرور: ما حكم تحصيل رخصة السّياقة بالطريقة المضمونة !؟ ومعناه: أنّ يكون المبلغ المدفوع فيه زيادة يأخذها المهندس ليجيز المتعلّم ولا يسبب له عراقيل ولا يرسبه في كلّ مرّة ؟
11- ويسأل بعضهم: أريد الحصول على صناديق النّحل لإنتاج العسل، وأنا من المستحِقّين لذلك، لكنّ المسؤولين يشترطون مالا لتمكيني من الحصول عليها، ومن غير دفع المال محال أن أحصل عليها.
12- ويقول آخرون: عملت مدّة عند بعض المقاولين الخواصّ، فلمّا طلبت منه شهادة عمل من أجل التوظّف في قطاع عمومي؛ طلب مبلغا من المال، مع العلم أنّ هذا أمر معمول به حتّى صار لهذه الشّهادة سعر معلوم !
13- طلب من أحدهم في مستشفى عمومي دفع مال من أجل إجراء عملية جراحيّة لقريبه المريض مرضا خطيرا في "الكلى"، وإن لم تجرَ له فسيبقى طول حياته مرتبطا بمصلحة تصفية الدم " الدياليز "، هو يسأل هل يأثم على دفعه المال لأنّه لم يكن له الخيار ؟
14- ويشتكي غير واحد بقوله: لكي أجري كشفا بالأشعّة في المستشفى العمومي طلبوا منّي رشوة ؟ ومنهم من يقال له: ادفع وإلاّ اذهب إلى الخواصّ وادفع أضعاف ما نطلبه منك.
15- وأسئلة من يشتكي من مصلحة الضرائب كثيرة، ومنها قول بعضهم: لقد ضخّموا فواتير الضّرائب، ومن أجل تخفيضها طلبوا مالا، فهل يجوز أن أدفع لهم هذا المال ؟
16- يسأل كثير من النّاس عن شراء تأشيرات السفر إلى البلاد الشّرقيّة والغربيّة - وهي تمنح مجّانا -؟
و في مدّة ما قبل الحجّ يكثر السؤال عن شراء جواز سفر الحجّ !؟
17- وبعضهم كي تُسَوَّى لهم وضعيّة الأراضي الّتي يستغلونها وتحويلها إلى ملكيّة خاصّة عن طريق الشّراء، يُطلَب منهم دفعُ رشاوي إلى جميع المسؤولين، وإلاّ بقِي ملفُّه حبيسَ الأدراج.
18- ويقول بعضهم: وعدني أحدهم بمنصب شغل في مؤسسة عمومية واشترط عليّ مالا، وأنا لا عمل لي، فما حكم المال الّذي أعطيه له ؟، ويقول آخرون: إنّ مسابقات التّوظيف الّتي يُعلَنُ عنها شكليّة، فإنّ المناصب توزّع بـ" المعارف " والرّشوة، فهل يجوز لنا دفع الرشوة ؟
19- وأختم بأغرب وأعجب سؤال سمعته في هذا الباب، قال السائل:" عرض عليّ أحدهم عملا مُهِمّا في مؤسسة عموميّة يشتغل فيها نظيرَ نسبة مئوية في راتبي الشّهري "!؟.
ولقد كانت إجابتي في أكثر الأحيان لا تدفع .. وبلِّغ الشرطة والدرك ... واكتب في الجريدة ... ولو كان صاحب الاستفتاء مضطّرا مظلوما؛ لأنّه لا يُصلح الوضعَ إلاّ ذاك.
وإنّ ممّا فتح الباب لكثير من النّاس أن يدفعوا هذه الرشاوي ويُعوِّدوا عليها هؤلاء الموظّفين: دعوى الضّرورة ! وأنّه يأثم الآخذ دون المعطي إذا كان مظلوما !
نعم المظلوم الّذي يدفع شرّا بشرٍّ أقلّ منه لا يأثم، لكن في كثير من الأحيان يكون الشرّ المدفوع متوهَّماً، أو يكون السّائل هو من تسبّب في وقوع الشرّ الّذي يدفعه، كأن يكون عقوبةً يستحقّها لمخالفته للإجراءات الإدارية.
وبعض النّاس يتوهّم أنّه مستحقّ لما يطلبه كمنصب الشغل أو السكن أو المشروع، وأنّ منعه ظلم وقع عليه، وهو في الواقع أهل لهذا الحق ولم يستحق عين هذا المنصب أو السكن أو المشروع؛ لأنّ المؤهلين له كثيرون، والّذين يستحقونه هم من يتم تعيينهم بالطرق الشرعية الرسمية.
ولا بدّ أن ننتبه إلى أنّ هذه النماذج إنّما هي أسئلة بعض من يخاف الله تعالى واشتبهت عليه الأمور، وإلاّ فالنّاس الّذين يخوضون في الحرام البيّن، ويستولون على حقوق النّاس بالرشاوى وتبادل الخدمات والمصالح أكثر بكثير من هؤلاء الضّعفاء الّذين يسألون تلك الأسئلة، وهذا يدلّنا على أنّ هذا المرض قد أصبح ظاهرة فعلا، ولا بدّ من التعاون والتآزر من أجل مكافحتها واستئصالها ، ومهما كان ذلك صعبا فهو ممكن بإذن الله تعالى، وهذه خطوات وأعمال في طريق العلاج يمكن للنّاظر المجتهد أن يزيد فيها لا أن ينقص:
1- لا بدّ أن يجتمع النّاس على مقاطعة هؤلاء المرتشين في جميع الميادين، لأنّ أهم أسباب وجود الآخذين للرشوة والقابلين لها وجود الدافعين لها.
2- أن ننبذ حبّ الذات " الأنانيّة " ونستشعر الأخوّة الإيمانيّة، فمن رأى نفسه مضطّرا فليعلم أنّ له إخوانا كثيرين في مثل حاله أو أسوأ، وإذا كان هو قادرا على دفع الرّشاوي، فغيره سيبقى محروما لأنّه غبر قادر عليها أو لا يستجيز دفعها.
3- أن نقوم بواجب تغيير المنكر باليد واللّسان عند الإمكان، والتّعاون مع الهيئات المؤهّلة لذلك من شرطة ودَرَكٍ وهيئات التفتيش ومكافحة الفساد، وإنّ الله يزع بالسّلطان ما لا يزع بالقرآن، وهذا الواجب يقع على كلّ من ابتلي بهؤلاء المرتشين، كما يقع على الموظّفين النّزهاء فهم مأمورون بالنّصح لزملائهم وتكرير النصح لهم، ثمّ التبليغ عنهم إن تمادوا في استغلال مناصبهم لمثل هذا العمل الدنيء.
4- وعلى وسائل الإعلام المختلفة أن تشيد بالهيئات المكافحة للفساد، وأن تتابع قضايا الرشوة في المحاكم وتُشَهّر بها ترهيبا للنّاس من هذه الظّاهرة، وأن تكشف للرّأي العام عن الإدارات والأماكن الّتي توجد فيها هذا المرض لتتحرك الجهات المسؤولة ولإحراج المتكاسلين عن أداء واجبهم أو الخائفين المتخاذلين.
5- على ولاة الأمور أن يسلّطوا العقوبات القاسية ضدّ كلّ من يثبت عنه بالدلائل القاطعة استغلال منصبه في المؤسسات الرسمية وأجهزة الدولة لحسابه الخاص، وأوّل هذه العقوبات الفصل النهائي من عمله، ومُصادرة الأموال الّتي اكتسبها من الرشوة والنماء الناتج عنها ليكون عبرة لغيره.
6- وكذا على الأئمّة والوعّاظ أن يكثروا من تذكير النّاس بفناء الدنيا وما فيها من أموال وبيوم الحساب، وسرد الوعيد الوارد في أكل المال الحرام والظلم عموما، والوارد في الرّشوة خصوصا من فوق المنابر، وعلى صفحات الجرائد، والمواقع الإلكترونية، وكلّ ما هو متاح لهم من وسائل الإعلام.
7- علينا أن نجعل في البرامج التعليميّة في مختلف المستويات دروسا تشرح فيها مفاسد الرشوة على الفرد والمجتمع وعاقبة أهلها في الدنيا والآخرة، وأخرى لبيان خطر أكل المال الحرام، ودروسا في العقيدة يعرف فيها النشء بأنّ رزقه مقدّر له قبل أن يولد وأنّ السرقة والرشوة وأكل أموال النّاس بالباطل لن يزيد في ماله ورزقه شيئا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.