وجاءوا ثلاثهم فوقفوا أمامه .. روى مسلم عن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قال: حَدَّثَنِي عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قال:
"... لَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى، قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: (( مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى ؟))
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: يَا نَبِيَّ اللهِ ! هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً، فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ.
فقالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ ))
قُلْتُ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ ! مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا، فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ نَسِيبًا لِعُمَرَ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا.
فَهَوِيَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ.
فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ، جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا !؟
فَقَالَ رسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمْ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِيِّ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم -)) وَأَنْزَلَ اللهُ عزّ وجلّ:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)}" [الأنفال].
بكى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبكى صاحبه من خشية الله تعالى، وتلا على أصحابه هذا العتاب ولم يُخفِه عليهم لأنّه وحي.
وحمل هذا العتاب معه كرامةً لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فقد ضُمَّ هذا الموقف إلى جملة موافقاته.
فهم في أوّل الطّريق .. ولا بدّ للعالَمِ كلّه أن يعلم ببأس المسلمين وقوّتهم، ولا بدّ من الإثخان في الأرض، وهو الإكثار من القتل، حتّى إذا ذاع صيتهم وخافهم كلّ مشرك عندئذ لهم أن يقبلوا الفداء، بل أن يمُنّوا على من شاءوا كما قال تعالى:{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:4].
ولكنّ أرحم الرّاحمين ما شاء أن يُحزن نبيّه صلّى الله عليه وسلّم ولا أصحابه فأرسل جبريل عليه السّلام بخيار.
روى التّرمذي عنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ:
(( إِنَّ جِبْرَائِيلَ هَبَطَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: خَيِّرْهُمْ - يَعْنِي أَصْحَابَكَ - فِي أُسَارَى بَدْرٍ: الْقَتْلَ، أَوْ الْفِدَاءَ، عَلَى أَنْ يُقْتَلَ مِنْهُمْ قَابِلًا مِثْلُهُمْ.
قَالُوا: الْفِدَاءَ، وَيُقْتَلُ مِنَّا !
وفي رواية: بل نُفاديهم فنتقوّى به عليهم، ويدخل منّا الجنّة سبعون. ففادوهم.
وكان فداء كلّ واحد منهم أربعة آلاف درهم [رواه عبد الرزّاق (5/206)].
وكنّا قد رأينا أنّه صلّى الله عليه وسلّم أمر بعقبة بن أبي معيط ليُخرج من بين الأسرى فيقتل، فلمّا قال: يَا مُحَمَّدُ، مَنْ لِلصِّبْيَةِ ؟ قالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( النَّـارُ )) !
ولن يتمّ الفداء بين عشيّة وضحاها، بل سيستغرق ذلك أيّاما وأيّاما.
واليوم سيغادرون بدرا عائدين إلى المدينة النّبويّة سالمين غانمين .. إنّه فجر اليوم الثّالث بعد انقضاء المعركة، فأمرهم بتهيئة راحلته.
ولكنّهم رأوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الآن يركب راحلته لينطلق إلى غير ما توقّعوا .. فهذا ليس طريق المدينة النّبويّة.. إلى أين يذهب ؟
إنّه يذهب ويتحدّث إلى أقوام بشيء مرعب مخيف !
قال أبو طلحة رضي الله عنه - كما في الصّحيحين - فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ اليَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا، ثُمَّ مَشَى، وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: مَا نُرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ:
(([ يَا أبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَيَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ] أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمْ اللهَ وَرَسُولَهُ ؟ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ؟ )).
فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ [وَلَكِنَّهُمْ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا])).
قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمْ اللهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنَقِيمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَمًا.
ثمّ انطلق الجميع إلى المدينة النّبويّة، وتركوهم إلى مصيرهم وما تسابقوا إليه.
وانعطف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم براحلته نحو عواطف جيّاشة في طيبة الطّيبة.. وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو في طريقه يتساءل عن حال ابنته رقـيّـة، حبيبته الّتي لا يدري ما فعل المرض بها ؟ فأرسل ولده بالتبنّي زيدَ بن حارثة رضي الله عنه[1] فهو الّذي يحدّثنا عن ذلك.
روى البيهقيّ بسند حسن عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال:" إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خلف عثمان بن عفّان وأسامة بن زيد على رقيّة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيّام بدر، فجاء زيد بن حارثة رضي الله عنه على العضباء ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالبشارة، قال أسامة: فسمعت الهيعة[2]، فخرجت فإذا زيد قد جاء بالبشارة، فوالله ما صدّقت حتّى رأيت الأُسارى، فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعثمان بسهمه ".
وهذا دليل على أنّ عثمان كان يريد الخروج إلى بدر، ولكنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم استبقاه، لذلك جاء في صحيح البخاري عنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قال: إِنَّمَا تَغَيَّبَ عُثْمَانُ رضي الله عنه عَنْ بَدْرٍ؛ فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ )).