فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ( فَإِنِّي أُشْهِدُ نَفْسِي وَخَلْقِي أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، وَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُمْ عَدَدَ أَيَّامِ الدَّهْرِ، وَعَدَدَ رَمْلِ عَالِجٍ ).
وَأَمَّا رَمْيُكَ الجِمَارَ، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ:{ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [السّجدة:17].
وَأمَّا حَلْقُكَ رَأْسَكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَعْرِكَ شَعْرَةٌ تَقَعُ فِي الأَرْضِ إِلاَّ كَانَتْ لَكَ نُورًا يَوْمَ القِيَامَةِ.
وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالبَيْتِ إِذَا وَدَّعْتَ، فَإِنَّكَ تَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِكَ كَيَوْمِ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ )).
شرح الحديث:
سبق شرح حديث قريب من هذا.
- قوله: ( أَمَّمْتَ ): بمعنى " قصدت "، ومنه التيمّم، وهو قصد الصّعيد الطّاهر.
- قوله: ( البَيْتَ العَتِيقَ )
في تسمية البيت الحرام عتيقا أقوال، ذكر منها ابن الجوزي رحمه الله أربعة:
1) أحدها: لأنّ الله تعالى أعتقه من الجبابرة، فأعتقه من أن يتسلط عليه جبار بالهوان إلى انقضاء الزمان، وهو قول عبد الله بن الزّبير، ومجاهد، وقتادة.
ولا بدّ أن نبيّن ضعف الحديث الّذي رواه التّرمذي عن عبد الله بن الزّبير رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّمَا سُمِّيَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ جَبَّارٌ )).
2) والثّاني: أنّ معنى العتيق " القديم "، قاله الحسن، وابن زيد.
يقال سيف عتيق وقد عتق أي قدم، ومعنى ذلك يوافق قول الله تعالى:{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ } [آل عمران:96].
وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ ؟ قَالَ: (( الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ )).
3) والثّالث: لأنّه لم يملك قطّ، قاله مجاهد في رواية، وسفيان بن عيينة، ووجه ذلك أنّ العِتق هو أن يكون الشّيء حرّا غير مملوك.
4) والرّابع: لأنّه أعتق من الغرق زمان الطّوفان، قاله ابن السّائب، وابن جبير.
وذكر القرطبي معنيين آخرين:
5) فالخامس: لأنّ الله عزّ وجلّ يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب.
6) والسّادس: وقيل: العتيق أي: الكريم؛ لأنّ العتق هو الكرم، ومنه عِتْق العبد، لأنّه خروج من ذل الرّق إلى كرم الحرية.
- قوله: ( عَدَدَ رَمْلِ عَالِجٍ ): في "تحفة الأحوذي" أنّه: ما تراكم من الرّمل، وهو أيضا اسم موضع كثير الرّمل.
- قوله: ( وَأَمَّا رَمْيُكَ الجمَارَ، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ:{ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}):
ما كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليذكر هذه الآية في هذا المقام إلاّ لحكمة، وذلك لأنّ الجزاء من جنس العمل، وتوضيح ذلك:
أنّ هذه الآية ذكرها الله تعالى جزاء لمن صلّى باللّيل، قال تعالى:{ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)}.
قال العلماء: لمّا أخفوا عملهم خوفا من الله، رزقهم الله ما يخفى على القلوب والخواطر. قال ابن القيّم في "حادي الأرواح":
" وتأمّل كيف قابل ما أخفوه من قيام اللّيل بالجزاء الّذي أخفاه لهم ممّا لا تعلمه نفس، وكيف قابل قلقهم وخوفهم واضطرابهم على مضاجعهم حين يقومون إلى صلاة اللّيل بقرّة الأعين في الجنّة، وفي الصّحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( قَالَ اللَّهُ: " أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ:{ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} ".
وهنا كذلك، فإنّ العبد وهو يرمي هذه الجمرات، تخفى عليه الحكمة من هذه العبادة، ومع ذلك يبذل وسعه جاهدا في أداء منسكه، فناسب أن يجازيه الله بما يخفى عليه.
*** *** ***
الحديث الحادي والعشرون:
1114-وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( مَنْ خَرَجَ حَاجًّا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الحَاجِّ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ خَرَجَ مُعْتَمِرًا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ المُعْتَمِرِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ خَرَجَ غَازِيًا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الغَازِي إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ )).
[رواه أبو يعلى من رواية محمّد بن إسحاق، وبقيّة رواته ثقات].
شرح الحديث وفوائده:
1- قد رأينا في شرح الأحاديث السّابقة وجوهَ شبهٍ كثيرةً بين الحجّ والجهاد في سبيل الله.
وفي هذا الحديث وجه شبهٍ آخر، وهو أنّ كلاّ منهما إذا خرج يريد وجه الله تعالى فمات خُتِم له على عمله، ويجري عليه أجره إلى يوم القيامة.
وهذا من فضل الله العظيم، أن يكون الحاجّ أو المعتمر أو المجاهد في قبورهم، وتجري عليهم إلى يوم القيامة أجورهم.
2- يلحق بهؤلاء الثّلاثة المرابط في سبيل الله تعالى، والمرابط هو من يلازم ثغور المسلمين يحرسها من العدوّ.
فقد روى الطّبراني في " الكبير " عَنِ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( كُلُّ عَمَلٍ يَنْقَطِعُ عَنْ صَاحِبِهِ إِذَا مَاتَ، إِلاَّ المُرَابِطَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَإِنَّهُ يُنَمَّى لَهُ عَمَلُهُ، وَيُجْرَى عَلَيْهِ رِزْقُهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ )).
3- لا يعارض ما ذكر في هذه الأحاديث قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا مَاتَ الْإنسانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ))، وذلك إمّا:
أ) لأنّه لا مفهوم للعدد في الثّلاث، وفضل الله يزيد.
ب) وإمّا أن يقال – وهو الأقرب -: إنّ أجر صاحب الصّدقة الجارية، والعالم، والوالد، ربّما انقطع بانقطاع الأثر، فينقطع أجر الوالد بانقطاع دعاء الولد، والعلم بانقطاع من يأخذه، والصّدقة بتلفها أو عدم استعمالها، أمّا من مات حاجّا أو معتمرا أو مجاهدا أو مرابطا فإنّ أجره لا ينقطع أبدا إلى يوم القيامة.
بل إنّ الحاجّ والمعتمر – كما سيأتي بيانه – إذا مات على إحرامهما بقيا على إحرامهما.
والله أعلم وأعزّ وأكرم.