الفوائد:
- الفائدة الأولى:الشّروع في الذّهاب إلى الطّاعة طاعة.
هذا أصل من أصول الشّريعة السّمحَة، فيُؤْجَرُ المسلم على مجرّد الشّروع في الطّاعة وسعيه إليها.
وقد جاء نظير هذا في الذّاهب إلى المسجد، روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ )).
هذا فيمن ذهب – كما سبق بيانه في حديث آخر - إلى أيّ مسجد، فكيف بمن قصد بيت الله الحرام ؟
- الفائدة الثّانية:
وفي الحديث دلالة على ضَعْفِ قول من قال:" إنّ الحجّ ماشيا أفضل منه راكبا "، وأيّدوا قولهم ذاك بقاعدة ( الأجر على قدر المشقّة ).
فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في هذا الحديث أثبت له الأجر العظيم، والثّواب العميم، بكلّ خطوة تخطوها دابّـتـه، ولو كان الحجّ ماشيا أفضل لقال: ما يرفع الحاجّ رجلا ..الخ.
ثمّ إنّ قاعدة ( الأجر على قدر المشقّة ) ليست على إطلاقها، وإنّما تُقيّد بما إذا لم يستطِع المسلم الأخذ بأسباب التّيسير، فهناك يكون أجره على قدر نصبِه. ولا شكّ أنّ العبادة الّتي تتيسّر وسائلها تؤدّى على أكمل وجه، وأقوم سبيل.
*** *** ***
الحديث الرّابع عشر، والخامس عشر، والسّادس عشر:
قال رحمه الله:
1107-وعَنْ جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( الحُجَّاجُ وَالعُمَّارُ وَفْدُ اللهِ، دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ، وَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ )).
[رواه البزّار، ورواته ثقات].
1108-وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْحَاجُّ، وَالْمُعْتَمِرُ، وَفْدُ اللَّهِ، دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ، وَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ )).
[رواه ابن ماجه-واللفظ له-، وابن حبّان في "صحيحه" كلاهما من رواية عمران بن عيينة عن عطاء بن السّائب].
1109-ورواه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا ابنُ خزيمة، وابن حبّان في "صحيحيهما" ولفظهما:
(( وَفْدُ اللهِ ثَلاَثَةٌ: الحَاجُّ، وَالمُعْتَمِرُ، وَالغَازِي )).
وقدّم ابن خزيمة " الغاَزِي".
- الشّرح:
- ( وَفْدُ الله ): الوَفْد جمع " وافِد "، كرَكْب جمع راكب، و" صَحب " جمع صاحب، والوفد: هم القوم الذين يجتمعون ويردون البلاد يقصدون الأمراء لزيارة واسترفاد وغير ذلك، فالحجّاج والعُمّار والغزاة وفدُ الله، لأنّهم بسفرهم قاصدون التقرّب إلى الله تعالى.
- ( دَعَاهُمْ ): أي: أمرهم، وإنّما عبّر بالدّعوة إشارةً إلى أنّه لا يليق ردّ الدّعوة، وإذا كانت إجابة دعوة المخلوق واجبة، فكيف بدعوة الخالق ؟
-( فَأَجَابُوهُ ): لذلك يقول الحاجّ والمُعتَمِر: ( لبّيك ) من التّلبية، وهي: الإجابة.
-( وَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ): فإجابة الله للدّعاء تأتي بعد إجابة العبد للأمر، كما قال تعالى:{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }.
وما أحسن قول من قال في الحُجّاج:
دعـــاهــم فلبّــوه رِضـــاً ومـــحــبّـــةً فلمّــا دعــــوه كـــان أقـرب مـنــهـــمُ
تراهم على الرّمضاء شُعثاً رؤوسهم وغُبــراً، وهـــم فيــها أسـرُّ وأنعــــــمُ
لماّ رأت أبصــــارهـم بيتـــــه الّـــذي قلــــوب الورى شـوقـــا إليه تضـــرّم
كأنّـــهـــم لــم يتعبــــوا قـــطّ قبــلـه لأنّ شقـــاهم قــد ترحّــــل عنـهـم
- الفوائد المستنبطة:
- نلحَظ أنّ هذا الحديث يؤكّد ما سبق بيانه من تشبيه الحجّ بالجهاد في سبيل الله، حيث قرن الحجّ والعمرة بالغزو في سبيل الله تعالى، فتكون أوجه الشّبه بين الحجّ والجهاد:
- أنّهما من أفضل الأعمال كما جاء في الحديث الأوّل، إذ جمعهما معاً.
- أنّ الحجّ للضّعيف والمرأة بمثابة الجهاد للرّجل المستطيع.
- أنّ كلاّ من الحجّ والجهاد فيه بذل للمال وتحمّل للمشاقّ، وتركٌ للأهل والأولاد.
- أنّ كلاّ من الجهاد والحجّ إذا كانا مستحبّين يلزمان بالشّروع فيهما.
- كلّ من الحاجّ والمجاهد إذا مات في الطّريق وقع أجره على الله.
- وكلّ منهما وِفادةٌ على الله تعالى، كما في هذا الحديث. وستأتي وجوه أخرى في الأحاديث الآتية.
- قوله: ( وَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ): هذا خبر صادق من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن وعد الله بأنّ مقامات الحجّ والعمرة من أسباب إجابة الدّعوة، وخاصّة يوم عرفة كما سيأتي إن شاء الله.