" ومنها: ما يحصل للإنسان من التّجارب والمعرفة بالحوادث، وما تصير إليه عواقبها، فإنّه لا يحدث أمر إلاّ قد تقدّم هو أو نظيره، فيزداد بذلك عقلا، ويصبح لأن يقتدى به أهلا ".
فلا شكّ أنّ من شرط نجاح الدّعوة إلى الله: التسلّح بالعلم الصّحيح مع التزام المنهج النبويّ، وإنّ ممّا يلزم أيضا للقيام بها على أكمل وجه قوّة الشخصيّة، والصّلابة في المواقف، مع فقه الدعوة، ولا طريق إلى تحصيل هذه الأخيرة إلاّ طريق مجالسة هؤلاء الصّالحين المصلحين بمدارسة سِيَرهم والوقوف عند مآثرهم.
وقد أحببت أن ألِج هذا الباب بذكر بعض المواقف البطوليّة للعلاّمة ابن باديس رحمه الله تعالى، مواقف كثيرة، منها ما هو معروف ومشهور، ومنها ما مجهول مغمور، وقد انتخبت منها خمسة مواقف نحسبها من أعظم مواقفه رحمه الله.
الموقف الأوّل: بين البقاء في الجزائر والهجرة منها.
لقد كان للشّيخ ابن باديس اختياراتٌ صعبة في حياته، وكان اختيار البقاء في الجزائر من أصعب الاختيارات الّتي اختارها رحمه الله تعالى، لأنّ للهوى فيه عاملا وللتّأويل فيه مجالا.
ولم يكن الشّيخ رحمه الله مضطّرا إلى أحد الأمرين، ولكن وجد نفسه يوما في مقام الاختيار وكان لابد أن يختار، ذلك حين لقي شيخه الّذي علّمه لمّا كان صغيرا في أرض الحجاز فقال له:" ابق هنا، واقطَع صلتَك بالوطن ". وقال له شيخ آخر هندي درس عنده هناك: "ارجع إلى بلدك لخدمة الدّين والعربية بقدر الإمكان ".
قال الشّيخ ابن باديس مبيّنا اختيارَه ورادّا الفضل لله تعالى الّذي وفقه وسدّده في ذلك:" فحقّق الله رأي الشّيخ الثّاني، فرجعنا إلى الوطن بقصد خدمته فنحن لا نهاجر، نحن حرّاس الإسلام والعربيّة والقوميّة بجميع مدعماتها في هذا الوطن "[1].
وقال للإبراهيمي يوما وقد كان مصمِّما على الخروج من الجزائر:
" إنّ خروجك يا فلان أو خروجي يكتبه الله فرارا من الزّحف" ! قال الإبراهيمي:" فوالّذي وهب له العلم والبيان، لقد كانت كلمته تلك شؤبوبا من الماء صبّ على اللّهب ".[2]
الموقف الثاني: الجزائر ليست فرنسا ولا تريد أن تصبح من فرنسا.
لم يواجه الشّيخ ابن باديس فرنسا سياسيّا أو عسكريّا؛ لأنّ الشرع والعقل أوجبا عليه ذلك، ولكنّه كان يعمل لذلك ويُعِدّ العدَّة له.
وكان يُداري ما استطاع، ولم يكن يعرف المداهنة في قضايا العقيدة ومصير الأمّة، بل كان صريحا وجريئا وحكيما أيضا، ومن ذلك أنّه لمّا قال بعض النوّاب الجزائريّين سنة 1936 (وهو فرحات عبّاس):" الجزائر هي فرنسا وإنّه على الجزائريّين أن يعتبروا أنفسهم فرنسيّين"، وقال:" إنّه فتّش عن القوميّة الجزائريّة في بطون كتب التّاريخ فلم يجد لها من أثر ! وفتّش في الحالة الحاضرة فلم يعثر لها على خبر !".
تصدّى له ابن باديس رحمه الله تعالى قائلا :" إنّنا فتّشنا في صحف التّاريخ وفي الحالة الحاضرة، فوجدنا الأمّة الجزائريّة المسلمة متكوّنة موجودة، كما تكوّنت ووجدت أمم الدّنيا كلّها. ولهذه الأمّة تاريخها الحافل بجلائل الأعمال، ولها وحدتها الدينيّة واللغويّة، ولها ثقافتها الخاصّة وعوائدها وأخلاقها، بما فيها من حسن وقبيح، شأن كلّ أمة في الدنيا. ثمّ إنّ هذه الأمّة الجزائرية الإسلاميّة ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت " ["الآثار" (5/293-294)].
فرحمه الله تعالى رحمة واسعة.
الموقف الثالث: الدعوة إلى الله مقدَّمة على الأهل والمال.
بعد محاولات فاشلة من الولاية العامّة في حمل الشّيخ ابن باديس على حلّ " جمعيّة العلماء " أو التخلّي عن رئاستها، حيث قدّمت له العروض المغرية بواسطة أبيه – مصطفى -، وكان منها تعيينه في أعلى منصب دينيّ، فما نجحوا.
وكانت المحاولة الأخيرة لهم لمّا وقع والده في ديون كبيرة فبعث إليه "ميرانت" (مدير الشّؤون الأهلية) في الولاية العامّة بالعاصمة دعوة بالحضور إلى مكتبه في وقت محدّد معلوم - ليكون والد ابن باديس حاضرا -، فلمّا دخل عليه قال له:
" إنّ أسرة ابن باديس في ضائقة مالية حادّة، وهي مقبلة على الإفلاس منذ اليوم، وإنّ الحكومة الفرنسية تعلن استعدادها لإنقاذ الأسرة، وهي هذه المرّة لا تطلب منك حلَّ "الجمعيّةِ"، وإنّما تكتفي منك بالاستقالة منها فقط، تكتب الاستقالة وتوقّعها لتبقى محفوظة عندنا من غير إعلان عنها أو إشهار، ونحن نسلّم لأبيك الآن صكّا مصرفيّا يقضي كلّ ديون الأسرة، ويمنحها فرصة لاستعادة مكانتها الاقتصادية والاجتماعية. ونحن يعزّ علينا سقوط هذه العائلة الماجدة وإفلاسها " !
لم يُجِب ابنُ باديس في حضرة والده، وطلب مهلة للتّفكير إلى صباح اليوم الموالي، وفي الغد كتب جوابه إلى ميرانت:
" اقتُل أَسِيرَك يا ميرانت، أمّا أنا فمانع جاري " الجمعيّة "! اقتل مصطفى بن باديس واقتل معه ابنَه عبد الحميد، واقضِ على أسرة ابن باديس إنْ مَنَحَك الله هذه القدرة، ولكنّك لن تصل أبدا إلى قتل " جمعيّة العلماء " بيدي، لأنّ " جمعيّة العلماء " ليست جمعيّة عبد الحميد بن باديس، وإنمّا هي جمعيّة الأمّة الجزائريّة المسلمة، وما أنا إلاّ واحد فيها أتصرّف باسمها واسم الأمّة كلّها، ومُحَالٌ أن أتصرّف تصرّفا أو أن أقف موقفا يكون فيه قتل " الجمعيّة " على يدي، أقول هذا وحسبي الله ونعم الوكيل ".
[" إمام الجزائر عبد الحميد بن باديس " لعبد القادر فضيل، ومحمد الصّالح رمضان (127 – 128)].
الموقف الرابع: ابن باديس وقفٌ لله تعالى.
قد اضطّر ابن باديس للمشاركة في "المؤتمر الإسلاميّ الجزائريّ" الّذي كان يطالب بحقوق المسلمين في الجزائر سنة 1936 م من أجل المطالب الدينيّة المحضة المتعلّقة بحرّية التّعليم في المساجد واسترجاع الأوقاف الإسلاميّة، وفي مرحلة من المراحل تخلّى عن المؤتمر من كان يتزعّمه فاختير الشّيخ لرئاسته، ولكنّه اعتذر عن قبول ذلك وكتب بيانا قال فيه:
" قررت اللّجنة التنفيذيّة للمؤتمر الإسلامي الجزائري في جلستها الأخيرة بنادي الترقي إسناد رئاسة المؤتمر إليّ بدون أخذ رأيي في هذه المسألة الخطيرة، إذ كنت غائبا عن تلك الجلسة. وأنا مع شكري لإخواني الّذين أوْلَوْني ثقتهم الاجتماعيّة، ومع كون الأمّة الجزائريّة لم تعرف عنّي في وقت من الأوقات الفرار من الواجبات، مع كلّ هذا أعلن لهؤلاء الإخوان: أنّهم غفلوا حين أسندوا الرئاسة إلَيّ عن أشغالي العلميّة الّتي تستغرق أوقاتي كلَّها، والّتي أُضَحِّي في سبيلها بكلّ عزيز، كما غفلوا عن ارتباطي بهيئات علميّة مروضة على الشورى لا تعرف غير سبيلها سبيلا، وأنّها هي المالكة لحياتي لأنيّ جعلت حياتي وقفا عليها، وبناء على هذا فإنّي أعلن لهؤلاء الإخوة وللأمّة الجزائريّة كلّها أنّني لست لنفسي وإنّما أنا للأمّة أُعلِّم أبناءها وأجاهد في سبيل دينها ولغتها، وأنّ كلّ ما يقطع عليّ الطريق أو يعوقني عن أداء واجبي في السبيل فإنّي لا أرضى به ولو كان ذلك مصلحة الأمّة" [" الآثار " (6/181)].
الموقف الخامس: لماذا مات ابن باديس فجأة ؟
توفيّ رحمه الله تعالى في 8 ربيع الأول 1359 هـ (الموافق لـ 16 أفريل 1940 م) في العطلة الربيعيّة فجأةً لمرض ألمّ به.
- وقيل: مات همًّا وغمًّا وكمدًا لما أصاب العملَ الدّعويّ بسبب الحرب، حيث اضطّرت " الجمعيّة " إلى توقيف أكثر نشاطها، وفُرِضت عليه شبه إقامة جبريّة في مدينة قسنطينة، وكان أيضا يرى أبناء الجزائر وأبناء مدارسه الّذين كان يُعدُّهم لقتال فرنسا يساقون إلى الموت في سبيلها قهرا.
- وقيل: مات مسموما من طرف الإدارة الفرنسيّة، وقد حدّثنا الشّيخ محمد صالح رمضان بأخبار ترجّح الفرضيّة الأخيرة، والله أعلم بحقيقة الحال.
- ومنهم من ذكر سببا آخر يجعلنا نعدّ موته من مواقفه البطوليّة – سواء كان ذلك هو السّبب الصحيح أم لا -:
إنّه خبر قصَّهُ علينا الشّيخ البشير الإبراهيمي صديق عمره وأمين سرّه حيث قال رحمه الله:
" بعد استقراري في المنفى بأسبوع تلقّيت الخبرَ بموت الشّيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله بداره في قسنطينة بسرطان في الأمعاء، كان يحسّ به من سنوات ويمنعه انهماكُه في التعليم وخدمة الشعب من التفكير فيه وفي علاجه " [" آثار الإبراهيمي " (5/284)].
الله أكبر ... رحمك الله يا ابن باديس ... لقد ضحّيت بمالك وبنفسك في سبيل الله تعالى.
سبحان الله، لقد ترك العلاج ليس لأنّه لا مال له ولا معين له، بل تركه لأنّه لا وقت له ! لأنّ وقته كان قد أوقفه لله تعالى، ولأنّ أمر الدّعوة وإصلاح الأمّة قد سكن قلبَه، وملك عليه كيانه، فأصبح لا شعور له إلاّ بآلام الأمّة، ولا هَمَّ له إلاّ خدمة مصالح الأمّة.
وممّا يزيدنا عجبا كتمانُه لهذا المرض، حيث لم يكن يعلم به أحد فيما يظهر سوى الإبراهيمي، فقد سأل بعضهم عبد الحقّ بن باديس شقيق الشّيخ رحمه الله عن سبب الوفاة فقال ما معناه:" إنّ الشيخ لم يكن يعطي نفسه حقّها الكامل من الرّاحة، وقد كان يومه يبدأ مع صلاة الصّبح ولا ينتهي إلاّ في ساعة متأخّرة من اللّيل، وهذا لمدة خمس وعشرين سنة قضاها بأيّامها ولياليها في التدريس والوعظ وإلقاء المحاضرات والكتابة في الصحافة، والقيام على إدارة الجمعيّة وشؤونها، والسفر، والتنقّل الدائمين عبر القطر .. فالإرهاق والتعب والزهد في الحياة وثقل المسؤوليّة الّتي كان يشعر بها هي السبب المباشر لوفاته ".
[" الإمام عبد الحميد بن باديس رائد النهضة العلميّة والفكريّة " للزّبير بن رحال (121)].
فرحم الله ابن باديس رحمة واسعة.
والحمد لله ربّ العالمين.