- ومذهب الشّافعيّة والحنابلة هو وجوب سترهما.
وأدلّة كلّ من الفريقين قويّة معتبرة، ولكن ثمّة أمور لا بدّ من معرفتها، وتذكير النّاس بها:
أوّلا: أنّهم اتّفقوا على أنّ بدنها كلّه عورة من الرّأس إلى أخمص القدمين، وإنّما اختلفوا في الوجه والكفّين فقط.
ثانيا: اتّفقوا على أنّ ستر الوجه والكفّين أفضل من إبدائهما.
بل إنّ ذلك كان من شيم العرب في جاهليّتهم ومكارم أخلاقهم، وها هي أشعارهم تدلّ على ذلك، والشّعر ديوان العرب وتاريخهم.
فجاء في ذكر الحجاب في البيت - بمعنى القرار في البيت-:
( تَكْسَلُ عَنْ جَارَاتِهَا فَيَزُرْنَهَا وَتَعْتَـلُّ مِنْ إِتْيَـانِهِـنَّ فتُعْذَرُ )
ويذكّرنا هذا البيت بما يحكيه المبرّد وغيره أنّ صالح بنَ حسّان قال: أنشدوني بيتا خفِراً في امرأة خفِرة شريفة - والخفر هو الحياء والوقار- فقلنا قول الأعشى:
( كأنَّ مِشْيَتَها مِنْ بَيْتِ جارتِها مَرُّ السّحابة لا رَيْثٌ ولا عَجَلُ )
فقال: هذه خرّاجة ولاّجة كثيرة الاختلاف،- فذكروا أبياتا أخرى لم ترُق له - فقال: هذا ليس ما أردت، فقلنا: ما عندنا شيء، فقال: قول أبي قيس بن الأسلت:
ويكرِمُها جاراتها فيـزرْنَـها وتَعْتـَلُّ عن إتيـانِهـنَّ فتُعْذَرُ
وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَسْتَهِينَ بِجَارَةٍ وَلَكِنَّهَا مِنْهُنَّ تحْـيَا وَتَخْـفَرُ
فالحرّة كانت تجلس في البيت سيّدة مخدومة.
وفيما يخصّ حجاب البدن بما فيه الوجه، فتأمّل أشعار العرب تجد أنّ ستر الوجه كان معروفا لديهم، فقد صحّ أنّ امرأة النّعمان بن المنذر ملك الحيرة كانت تسير في الطّريق، فسقط نصيفها - أي: خمارها - من وجهها أمام النّاس، فمالت إلى الأرض لتحمله بيدها، وتستر وجهها بيدها الأخرى، حتّى قال النّابغة الذّبياني في معلّقته المشهورة:
سقط النصيف، ولم ترد إسقاطه فـتناولتـه واتّقـتنا باليـد
بـمخضب رخص كأن بنانـه عَنَـمٌ، يكاد من اللّطافة يُعقد
وحرب الفجّار قامت بين قريش وهوازن بسبب تعرّض شباب من كنانة لامرأة من غمار النّاس، راودوها على كشف وجهها فنادت:" يا آل بني عامر !! ".. فأجابتها سيوف بني عامر ..
وورد في أشعارهم ذكر البرقع، والقناع، والحجاب، والمرط، والكساء، ونحوها، مما يدلّ على أنّ ستر المرأة كان من مكارم الأخلاق عندهم، فجاء الحبيب المصطفى محمّد صلّى الله عليه وسلّم فأتمّها وقوّمها وكمّل نقصها.
ومن أنفس ما حفظه لنا علماؤنا: قصّة تكتب بماء الذّهب - وقد ذكرها ابن الجوزي في " المنتظم "، وابن كثير في " البداية والنّهاية "- في أحداث 286 هـ، جرت لامرأة اختصمت مع زوجها إلى قاضي الرّي، ادّعت على زوجها صداقا قدره 500 دينار، وقالت: ما سلّمه لي أبدا. فأنكر الزّوج، فجاء الشّهود الّذين حضروا مجلس العقد، فقال الشّهود: " نريد أن تُظهر لنا وجهها حتّى نعلم أنّها الزّوجة "..
ومن المقرّر أنّ هذا من المواطن التي أباح الله فيها النّظر إلى المرأة، إذ لا يخفى عليكم أن نظر الرجل إلى المرأة محرّم إلاّ في مواطن ضيّقة كالخِطبة والمعاملة كبيع وإجارة، وفي الشهادة كما في قصّتنا هذه .. لكن ..
لمّا سمع الزّوج ذلك صرخ وقال: لا تفعلوا، هي صادقة فيما تدّعيه.
يريد بذلك صيانة زوجته من أن يراها الرّجال ..
فلمّا رأت الزّوجة ذلك منه، وأنّه ما أقرّ إلاّ ليصون وجهها، قالت: هو في حِلٍّ من صداقي في الدّنيا والآخرة "..
قال ابن الجوزيّ رحمه الله قبل أن يذكرها:" ومن عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السّنة .." ثمّ روى القصّة بسنده. وقال قاضي الريّ:" اكتبوها في مكارم الأخلاق ".
ثالثا: القائلون باستحباب تغطية الوجه قيّدوا ذلك بأمن الفتنة.
لا بدّ أن نعلم أنّ علماء المذاهب الأربعة من المتأخّرين اتّفقوا على أنّه يجب ستر الوجه إذا فسد النّاس وخِيفت الفتنة، وضابط الفتنة أن تفتِن المرأة النّاس بجمالها، أو لا تأمن المرأة على نفسها فيُعتدى عليها، وإليك نقولا من بعض علماء المذاهب:
* نقل الخطيب الشّربيني في " مغني المحتاج " (3/123) عن إمام الحرمين الجوينيّ – وهو من كبار أئمّة الشّافعيّة – " اتّفاق المسلمين على منع النّساء من الخروج سافرات الوجوه ".
* ونقل صاحب " عون المعبود " (11/162) عن ابن رسلان قوله:" أمّا عند خوف الفتنة فظاهر إطلاق الآية والحديث عدم اشتراط الحاجة، ويدلّ على تقييده بالحاجة اتّفاق المسلمين على منع النّساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لا سيّما عند كثرة الفسّاق ".
* وفي " حاشية الطّحطاوي على المراقي " (2/237)، و" الدرّ المختار " للحصكفيّ من الحنفيّة قالوا: " وتمنع المرأة الشّابذة من كشف الوجه بين الرّجال، لا لأنّه عورة، بل لخوف الفتنة ".
* وقال ابن عابدين في " حاشيته ": " وتمنع المرأة الشّابّة من كشف الوجه لعلّة خوف الفتنة ".
* وقال القرطبيّ: وقد قال ابن خويز منداد من علمائنا – وهو من كبار أئمّة المالكيّة وكان على عقيدة السّلف-:
" إنّ المرأة إذا كانت جميلة وخيف من وجهها وكفّيها الفتنة فعليها ستر ذلك، وإن كانت عجوزا أو مقبّحة جاز أن تكشف وجهها وكفّيها ".
* وقال محمّد بن عبد الرّحمن المغربيّ رحمه الله في " مواهب الجليل " (1/499):
" واعلم أنّه إن خشي من المرأة الفتنة يجب عليها ستر الوجه والكفّين، قاله القاضي عبد الوهّاب، ونقله عنه الشّيخ أحمد زروق في " شرح الرّسالة "، وهو ظاهر التّوضيح ".
وقال النّفراوي في " الفواكه الدّواني " (2/277):
" اعلم أنّ المرأة إذا كان يُخشى من رؤيتها الفتنة، وجب عليها ستر جميع جسدها، حتّى وجهِها وكفّيها، وأمّا إن لم يُخش من رؤيتها ذلك فإنّما يجب عليها ستر ما عدا وجهها وكفّيها.. وأقول الّذي يقتضيه الشّرع وجوبُ سترها وجهَها في هذا الزّمان، لا لأنّه عورة، وإنّما ذلك لما تُعُورف عند أهل هذا الزّمان الفاسد أنّ كشف المرأة وجهَها يؤدّي إلى تطرّق الألسنة إلى قذفها، وحفظ الأعراض واجب كحفظ الأديان والأنساب.. ".
إذن فقد تبيّن من هذه النّقول أنّ الصّواب الّذي تدلّ عليه أصول الشّريعة هو القول بوجوب تغطية الوجه والكفّين، وذلك:
لأنّه أحوط.
لأنّه كما قال تعالى:{ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}، قال ابن كثير رحمه الله:" أي: إذا فعلن ذلك عُرِفْن أنّهنّ حرائر لسن بإماءٍ ولا عواهر "، وقال القرطبيّ رحمه الله: " فتنقطع الأطماع عنهنّ، وليس المعنى أن تعرف المرأة حتّى تعلم ".
لأنّ ذلك يمنع الاعتداء عليهنّ، فإذا كان النّساء جميعهنّ مستورات الوجوه فلن يتجرّأ الفاسق على الاعتداء عليهنّ بالكلام ونحو ذلك، خشية أن تكون قريبته.
ونختم هذا البحث الوجيز بنقل كلام الشّيخ الألبانيّ رحمه الله في المسألة، فإنّ الكثيرين يجهلونه عنه:
" ولو أنّهم قالوا: يجب على المرأة المتستّرة بالجلباب الواجب عليها إذا خشيت أن تصاب بأذى من بعض الفُسّاق لإسفارها عن وجهها: أنّه يجب عليها في هذه الحالة أن تستُره دفعاً للأذى والفتنة، لكان له وجهٌ في فقه الكتاب والسنّة، بل قد يقال: إنّه يجب عليها أن لا تخرج من دارها إذا خشِيت أن يُخلع الجلباب من رأسها من قِبل بعض المتسلّطين ... أمّا أن يُجعل هذا الواجب شرعا لازما على كلّ النّساء في كلّ زمان ومكان، وإن لم يكن هناك من يؤذي المتجلببات، فكلاّ ثمّ كلاّ ..".
[" جلباب المرأة المسلمة " (ص 17) من مقدّمة الطّبعة الجديدة].