فكان لزاما بعد معرفة فضائل التّوحيد ومناقبه، أن نقف على فظائع الشّرك ومثالبه، فيزداد المسلم إيمانا وتوحيدا، ولإيمانه توكيدا وتوطيدا.
فتذكّر – أخي المسلم – أنّ:
1- الشّرك لا يُغفر، فقال:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48].
وقد سبق أن رأينا قول الله عزّ وجلّ في الحديث القدسيّ:(( يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي. يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً )).
وقال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: من الآية72].
لذلك روى البخاري عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
(( يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ[1]، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: " أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي[2] ؟ فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ ! إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: (( إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ )) ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ ! مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ ؟ فَيَنْظُرُ، فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ[3] مُلْتَطِخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ )).
وفي الصّحيحين عن أنسٍ رضي الله عنه أنّ النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا: لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ كُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ ! قَالَ: فَقَدْ سَأَلْتُكَ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي فَأَبَيْتَ إِلَّا الشِّرْكَ )).
2- أنّ الشّرك مُحيطٌ للأعمال:
فمن أوقع الآيات على القلوب المنفّرة من الشّرك بالله سبحانه: قوله تعالى:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: من الآية88].
ولو تأمّلت هذه الآية العظيمة لألفيتها جاءت عقِب مدح الله تعالى لأنبيائه وصفوة خلقه - وهم ثمانية عشر رسولا - فقال:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)} [الأنعـام].
وقال لسيّد الموحّدين محمّد صلّى الله عليه وسلّم:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
وكان إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم يدعو ربّه متضرّعا قائلا:{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: من الآية35]، قال بعض السّلف: من يأمن على نفسه الشّرك بعد إبراهيم عليه السّلام ؟!
3- الشّرك ظلمٌ عظيم لله عزّ وجلّ:
قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: من الآية13]؛ لأنّ الظّلم هو وضع الشّيء في غير موضعه، والمشرك يضع العبادة في غير محلّها، ومحلّها هو خالقه ورازقه ومدبّر أموره.
وما أحسن المثل المضروب في كلام يحيى عليه السّلام في الحديث الّذي رواه الترّمذي، حيث قال: (( إِنَّ مَثَلَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ، فَقَالَ: هَذِهِ دَارِي، وَهَذَا عَمَلِي، فَاعْمَلْ وَأَدِّ إِلَيَّ. فَكَانَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ ! فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ ؟)).
4- أنّ الشّرك يبقى مهيمنا على نفوس بعض هذه الأمّة:
وقد جحد أكثر النّاس توحيد العبادة، وحصروا التّوحيد في توحيد الرّبوبيّة، لذلك قالوا: والشّرك أمنت منه هذه الأمّة، واستدلّوا بما رواه مسلم عن جَابِرٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ النّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: (( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ )).
والعجيب أنّ الحديث لا يدلّ على ما قالوه لا تصريحا ولا تلميحا، إنّما هو خطاب خاص للصّحابة رضي الله عنهم، وقد صان الله القرون الأولى المفضّلة من الوقوع في الشّرك، حتّى فشا الشّرك في هذه الأمّة من جديد، والواقع خير دليل على ما نقول، إذ لم يعد يخلو بلد من بلاد الإسلام من الشّرك الذي جاء الرّسل لمحاربته، ويؤيّد ذلك كثير من الأحاديث، ومنها:
ما رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه وأحمد عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى يَعْبُدُوا الْأَوْثَانَ، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ كَذَّابُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي )).
وفي البخاري عن أَبي هريرةَ رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِي الْخَلَصَةِ - وَذُو الْخَلَصَةِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ -)).
وغيرها من الأحاديث.
وقِلَّة هم أولئك الّذين يقلقون ويضطربون لمكافحة هذه المظاهر، كما قلق لها صلّى الله عليه وسلّم، فقد روى البخاري عن جريرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنه قال: كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْتٌ يُقَالُ لَهُ (ذُو الْخَلَصَةِ)، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ (الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَةُ) أَوْ الْكَعْبَةُ الشَّأْمِيَّةُ، فقالَ لِي رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( هَلْ أَنْتَ مُرِيحِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ ؟)) قَالَ: فَنَفَرْتُ إِلَيْهِ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ قَالَ فَكَسَرْنَا وَقَتَلْنَا مَنْ وَجَدْنَا عِنْدَهُ فَأَتَيْنَاهُ فَأَخْبَرْنَاهُ فَدَعَا لَنَا وَلِأَحْمَسَ ".
فتأمّل قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( هَلْ أَنْتَ مُرِيحِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ ؟ )).
وطائفة أخرى تأمن على نفسها الشّرك، لأنّه تظنّ أنّ الشّرك هو عبادة القبور فحسب، وتتغافل عن التوكّل على غير الله، وحبّ غير الله، والاستعانة بغيره تعالى، وغير ذلك من أعمال القلوب التي لا يصحّ صرف شيء منها إلاّ لله.
المسألة الرّابعة: العذر بالجهل.
فقوله تعالى:{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} خطاب للنّاس جميعهم:
- فأمّا المشركون، فكأنّ الله تعالى يقول لهم: إنّه لا يحقّ ولا ينبغي أن يجعل مع الله إله أخر بعد أن أيقنتم أنّه لا خالق إلاّ هو، ولا رازق إلاّ هو.
- وأمّا المؤمنون، فكأنّ الله يقول لهم: إنّه لا ينبغي أن ترتدّوا وتجعلوا لله أندادا بعد أن علمتم أنّه لا معبود بحقّ سواه.
ويستفاد من ذلك أنّ الّذي يقع في الشّرك وهو غير عالم به، فإنّه معذور إن شاء الله، وهي المسألة الّتي تعرف بـ" العذر بالجهل "، والأدلّة على هذا الأصل:
1- قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: من الآية15]، وليس المقصود ذات الرّسول، ولكن علمه وحججُه وبيّناته، كما قال تعالى:{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] أي: ومن بلغه.
2-ما رواه مسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ: يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ )).
والمقصود بالسّماع: قيام الحجّة، كقوله تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}، وإلاّ فإنّه كان يسمع بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ودعوته قبل ذلك.
3- ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه عن النَبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( أَنَّ رَجُلًا كَانَ قَبْلَكُمْ رَغَسَهُ اللهُ مَالًا، فَقَالَ لِبَنِيهِ لَمَّا حُضِرَ: أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ ؟ قَالُوا: خَيْرَ أَبٍ، قَالَ: فَإِنِّي لَمْ أَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَإِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ ذَرُّونِي فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ. فَفَعَلُوا، فَجَمَعَهُ اللهُ عزّ وجلّ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ، فَتَلَقَّاهُ بِرَحْمَتِهِ )).
والشّاهد من هذا الحديث: أنّه شكّ في قدرة الله عزّ وجلّ، وليس له عذرٌ إلاّ الجهل.
4- ما رواه التّرمذي وأحمد عن أبي واقدٍ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ، مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا (ذَاتُ أَنْوَاطٍ)، يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، فقالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ ! فقال النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( سُبْحَانَ اللَّهِ ! هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ...)) الحديث.
والشّاهد: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عذرهم في قولهم هذا لأنّهم حديثو عهد بإسلام.
5- ما رواه أبو داود وغيره عن خزيمَةَ بنِ ثابتٍ رضي الله عنه أنّ النّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ، فَاسْتَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم لِيَقْضِيَهُ ثَمَنَ فَرَسِهِ، فَأَسْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم الْمَشْيَ، وَأَبْطَأَ الْأَعْرَابِيُّ، فَطَفِقَ رِجَالٌ يَعْتَرِضُونَ الْأَعْرَابِيَّ فَيُسَاوِمُونَهُ بِالْفَرَسِ، وَلَا يَشْعُرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم ابْتَاعَهُ. فَقَامَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم حِينَ سَمِعَ نِدَاءَ الْأَعْرَابِيِّ فَقَالَ: (( أَوْ لَيْسَ قَدْ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ )) فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَا وَاللَّهِ مَا بِعْتُكَهُ ! فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( بَلَى، قَدْ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ )) فَطَفِقَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُولُ: هَلُمَّ شَهِيدًا ! فقال خُزَيْمَةُ بنُ ثابتٍ رضي الله عنه: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَايَعْتَهُ، فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى خُزَيْمَةَ، فقال: (( بِمَ تَشْهَدُ ؟)) فَقَالَ: بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ! فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ.
والشّاهد: أنّ تكذيب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كفرٌ بلا شكّ، ولكنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عذره لأنّه أعرابيّ حديث عهد بعلم.
تنبيه:
اعلم أنّ العذر بالجهل إنّما يعتبر في حقّ الحديث عهد بإسلام، أو من كان يعيش في بيئة بعيدة عن العلم، قال ابن تيمية رحمه الله (3/16):
" اتّفق الأئمّة على أنّ من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئًا من هذه الأحكام الظّاهرة المتواترة، فإنّه لا يحكم بكفره حتّى يعرف ما جاء به الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ..".
ثمّ استدلّ رحمه الله بحديث حذيفة رضي الله عنه وغيره من النّصوص. وانظر لذلك أيضا " مجموع الفتاوى " (1/258 و283)، و(2/169)، و(3/16)، و(4/295).
[1] القترة ما يعلو الوجه من الكرب، والغبرة ما يعلوه من الغبار، فالأوّل معنويّ والآخر حسّي.
[2] يقصد قوله تعالى عن إبراهيم عليه السّلام:{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} [مريم:43].
[3] الذيخ: الذّكر من الضباع الكثير الشعر، والجمع أذياخ و ذيوخ، وأراد بالتلطخ: التلطخ برجيعه أو بالطين، كما قال في حديث آخر: ( بذيخ أمدر ) أي متلطخ بالمدر.