وقد قال الخليل بن أحمد (170هـ): (إني لأغلق عليَّ بابي، فما يجاوزُه همِّي)[1]. ولذلك بلغ أنْ كان الخليلَ .. ونحنُ، فقد أُعِنَّا بأنْ غُلِّقَتْ أبوابنا، فلنُرِ أنفسَنا من منجَزَاتنا خيرا.
(2)
قال أحمد أمين (1373هـ): (قليلٌ من الزمن يُخصَّص كلَّ يومٍ لشيءٍ معيَّنٍ قد يغيِّرُ مجرى الحياة، ويجعلُكَ أقومَ مما تتصوّر وأرقى مما تتخيَّل)[2].
وقال مارون عبود (1381هـ): (إنَّ ساعةً تُنتَزَعُ كلَّ يومٍ من ساعات اللَّهْوِ وتُستَعمَلُ فيما يفيد تُمكِّنُ كلَّ امرئٍ ذي مقدرةٍ عقليَّةٍ أن يتضلَّعَ من علمٍ بتمامه)[3].
وفي زمن «الكورونا»، بوُسْعِ طالب المعرفة أن يخَصِّصَ الكثير لا القليل، ساعاتٍ لا مجرَّد ساعة ..
وإذا واظب في هذه الأيام على ذلك الكثير وتلك الساعات كان خليقًا بحصد الكثير من المنجَزَات، وما عليه ليتمكَّن من ذلك إلا التحلِّي بحِلْية الصَّبر، وللصبرِ -كما يقول ابن الجوزي- حَلاوةٌ تبين في العواقب.
ولأنَّ هذه المرحلة عابرةٌ لا قارَّة، استثناءٌ لا أصل، محدودةٌ لا ممدودة، فمِنَ الرأيِ لطالب العلم أن يخصص لها مشروعًا ينقطعُ له ويقبلُ عليه، مشروعًا علميًّا متكاملًا يحقِّق به طالبُ العلم منجَزًا في أحد مجالات العلم والمعرفة.
هذا المشروع من شأنه أن يكون قصيرَ المدى، ولكنه عظيمُ الفائدة والعائدة، له مبدأٌ ومنتهًى، يُحقِّقُ به المرءُ مُنجَزًا معرفيًّا مكتملَ الأركان، أيًّا ما كان ذلك المشروع، قراءةً أو حفظًا أو تأليفًا أو غير ذلك.
(3)
قال أبو هلال العسكريُّ (400هـ): (اجتهدْ في تحصيل العلم لياليَ قلائلَ، ثمَّ تذوقْ حلاوة الكرامة مُدَّةَ عمرك، وتمتَّع بلذَّة الشرف فيه بقيَّة أيامك، واستَبْقِ لنفسِك الذِّكرَ به بعد وفاتك)[4].
... اجعل لمجلس مشروعك حُرْمَةً لا تُنتَهَك، لا تزاحمْه بغيره، حدِّد له أوقاتًا لا يشاركه فيها غيره، وأوَّلُ ذلك أن تخلِّص مجلسك من وسائلِ التواصل الاجتماعي .. اُركُلْ -بلا رحمةٍ- هاتفَك بعيدًا عنك، ولا تخفْ، فلن يتواصل معك أحدٌ لتُسعِفَ العالم بلقاحٍ لا يعرفه سواك! ثم إن لك في هامش يومك سعةً في متابعة ما تشاء من وسائل التواصل، وأمَّا زمن فاعليَّة المشروع فاجعله خالصًا له.
...............................................................
(8)
- كان أبو عبد الله البصري يُصنِّف والشدائدُ تنهَشُ حالَه، حيث لا طعامَ عنده ولا شراب، وقد دخل عليه أبو الحسن الأزرق يومًا وهو يصنف، فأراد ماءً عنده فلم يجده، وبحث عن طعام فلم يحصِّله، فقال لأبي عبد الله: (أتصنِّفُ ولا طعامَ ولا شرابَ عندك وأنتَ جائع !). فوضع أبو عبد الله قلمه والجزء الذي بين يديه وقال: (إذا تركت التعليق هل يحصل الطعام والشراب؟). قال: (لا). فقال أبو عبد الله: (فَلَأَنْ أعلق ولا يضيع وقتي أولى!).
- وكتب عبد الرحمن بن محمد الزبيري (في أيام عطلته كثيرًا من كتب العلم، كـ «الروضة» و «المهمات»، وكان لضيق حاله عن شراء الورق يكتب في أوراق التقاليد والمراسيم وما أشبهها).
- كما كتب نصر الدين الطوسي كتابه «رسالة أخلاق ناصري» لما كان محبوسًا عند القرامطة في قلعة «الموت».
- وصنّف السرخسي الحنفي موسوعته الجليلية «المبسوط»، والمطبوعة في (30) مجلدًا وهو محبوسٌ في بئر، وكان يقيد ذلك في خواتيم بعض الأبواب، كقوله بعد فراغه من أبواب العبادات: (هذا آخر شرح العبادات بأوضح المعاني وأوجز العبارات، إملاء المحبوس عن الجُمَع والجماعات)[5].
والأخبار في هذه الباب كثيرة، فلم تقعد بهؤلاء الأكابر عن تحصيل الفضائل فاقةٌ ولا شدَّة، بل ربما كانت تلك الأحوالُ منطَلَقًا لكثيرٍ من أعمالهم ومشاريعهم .. وإذا نظرت في الموسوعات التراثية التي صنفها أعلامنا، ثم قلَّبتَ طرفك في واقع حياتهم وما عليه مجتمعاتُهم وجدت أن كثيرًا من تلك الموسوعات صُنِّفَت تحت ظلال الشدائد.
ولا تزال تطوف بخاطري تلك الجملة التي وَصف بها الشيخ عبد الله البسَّام (1423هـ) الشيخَ عبد الله بن حسن آل الشيخ (1378هـ) في أثناء ترجمته له .. أعني قولَه عنه:
(وفي الوقت الذي انشغل الناس فيه بالفتن والمحن شَغَلَ نفسه بتحصيل العلوم وإدراك الفضائل ومعالي الأمور)[6].
ما أعظمَها ! هذه القدرة الفائقة على التحكُّم بالنفس وضبط اشتغالاتها.
العلمُ -يا صاحبي- عزيز، ومن عزِّته نفرتُه من الهموم المشاركِة.
صاحبي .. لا تُهدِر وقتك بفُتات الأخبار فإنها لا تنقضي، ولا تُهْلِك زمنك بما عليه غالب الناس من سفاسف الاهتمامات، ويرحمُ الله التاجَّ السبكيَّ (771هـ) الَّذي أدرك ما ينبغي أن يُملَأَ به وقتُ طالب العلم، ويُجمَعَ عليه همُّه، فكتبَ بمدادٍ مِلْؤُهُ الضَّنُّ بهَمِّ طالب العلم أن يُصرَفَ عمَّا خُلِق له بعد أن أورد طرفًا من أخبار التتار وجنايتهم على أهل الإسلام:
(ومن النَّاس من أفرد التصانيف لأخبارهم، وَيَكْفِي الفَقِيهَ مَا أوردناه، فأوقاتُ طالبِ العلمِ أشرفُ أن تضيعَ في أخبارهم إلَّا للاعتبار بها)[7].
وأنتَ .. فخُذْ من خبر «الكورونا» ما تحفظ به نفسَك، واستثمرْ ما أُحِيط به هذا الوباء من عزلٍ وحجرٍ بما تنمِّي به عقلك وتُعلِي معرفتك، ودعْك مما ضيَّع به الناس أنفسَهم في أوقاتِ المحن، من الانشغال بما لا يعنيهم عما يعنيهم، ففاتهم بذلك خير الدنيا والآخرة.
[1] سير أعلام النبلاء (7: 431).
[2] فيض الخاطر (3 :85).
[3] حبر على ورق (172).
[4] الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه (5).
[5] انظر هذه الأخبار بإحالاتها في: «الحكمة العربية – دليل التراث العربي إلى العالمية» لـ د. محمد الشيخ (423 – 424).
[6] علماء نجد خلال ثمانية قرون (1: 231).
[7] طبقات الشافعية الكبرى (1: 342).