فإذا قضى أيّامه كان أوّل ما يبدأ به الصّلاة [أي: الدّعاء والتضرّع إلى الله] عند الكعبة.
فنلحظ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يتزوّد لخوته، لا كما يفعله المتصوّفة الّذين يتعبّدون ! منتظرين فتات النّاس يُتصدَّق به عليهم ..
كما نلحظ أن اعتزال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم النّاس للعبادة لم يُعارِض به إعانة النّاس، وإغاثة الملهوف.
ونعود إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في تلك الأيّام ..
فقد كتب الله له مرّة أن يخرج في شهر رمضان، فتزوّد كما كان يتزوّد .. وبينما هو في خلوته تلك .. إذ حدث ما حدث ..
إذا به يسمع صوتا لم يكن قط بمثل الوضوح الذي هو عليه ..
وندع أمّ المؤمنين عائشة تحدّثنا عن بدء الوحي .. وذلك فيما رواه البخاري ومسلم أَنَّهَا قَالَتْ:
أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ[1].
ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ ،وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ.
ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ:
- اقْرَأْ.
- قال: مَا أَنَا بِقَارِئٍ ؟
قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي.
- فَقَالَ: اقْرَأْ.
- قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ.
فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي.
- فَقَالَ: اقْرَأْ.
- فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ ؟
فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي.
- فَقَالَ:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}.
فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ.
[وفي رواية قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي وَسْطِ الجَبَلِ، سَمِعْتُ صَوْتاً مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ:
يَا مُحَمَّدُ ! أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ.
قال: فَوَقَفْتُ أَنْظُرُ فَمَا أَتَقَدَّمُ وَمَا أَتَأَخَّرُ، وَجَعَلْتُ أَصْرِفُ وَجِهي عَنْه فِي آفَاقِ السَّمَاء، فَما أَنْظُر فِي نَاحيَة مِنْها إِلاَّ رَأَيْتُهُ كَذَلِكَ.
فَما زِلْت وَاقفاً مَا أَتَقَدَّمُ أَمَامِي وَما أَتأخَّر خَلْفي حَتّى بَعَثَتْ خَدِيجَة رُسُلَهَا فِي طَلَبِي ))].
فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ:
- زَمِّلُونِي ! زَمِّلُونِي !
فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ:
- لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي. فَقَالَتْ خَدِيجَةُ:
- كَلَّا ! وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.
فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ.
- فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ ! اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ !
- فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى ؟
فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم خَبَرَ مَا رَأَى.
- فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا[2]، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ !
- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ ؟)).
- قَالَ: (( نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا )).
ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ.
وهكذا كانت هذه أوّل ليلة قرآنيّة .. تتّصل الأرض فيها بالسّماء بعد فترة دامت ما يقارب ستّة قرون.
وعندها أسلمت خديجة بنت خويلد، فكانت أوّل من آمن من النّساء.
وأسلم أبو بكر فكان أوّل من أسلم من الرّجال.
وأسلم عليّ بن أبي طالب فكان أوّل من أسلم من الفتيان.
وأسلم زيد بنُ حارثة فكان أوّل من أسلم من الموالي.
وأسلم ورقة بن نوفل فكان أوّل من أسلم من أهل الكتابين.
من الفوائد والعبر في هذه الحادثة.
- أوّلا: لا يحصّل العلم إلاّ بالمشقّة والتعب:
فهذا أحسن ما يعتبر به من هذه الحادثة: أنّه لا بدّ من الحرص الشّديد على معرفة الحقّ، وبذل أسباب معرفته، والسّعي إليه.
فإنّ الله قادرٌ على أن يبعثه وهو في مضجعه، ولكنّه يعلّمنا أنّه لا بدّ من المشقّة في طلب العلم وأيّ علم: إنّـه العم بالوحـي !!.
لذلك كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسعى أيّاما وليالي وشهورا إلى غار حراء، ولم ينتظر الحقّ ليدقّ له بابه.
ثمّ تأمّل لماذا كان جبريل عليه السّلام يأخذ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويغطّيه حتّى يبلغ من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الجهد ؟
ذلك فيه إعلام أنّه لا بدّ من المشقّة والتّعب الشّديدين لأخذ العلم.
- ثانيا: صنائع المعروف تقي مصارع السّوء:
فانظر كيف استدلّت خديجة رضي الله عنها على أنّ الله تعالى ناصرٌ نبيّه ومؤيّدُه بحُسن أخلاقه ومعاملته للنّاس، فحريّ بالمسلم أن يستيقِن أنّ عوامل النّصر تكمن أوّل ما تكمن في إصلاح النّفس مع الخالق والخلق.
- ثالثا: الرّؤيا الصّادقة من الوحي:
وذلك ظاهر من قول عائشة رضي الله عنها: ( أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ ).
ويؤيّد ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن عبادة بن الصّامت رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّمقال: (( رُؤْيَا المُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ )) [متّفق عليه].
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال رَسُولُ الله ِ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّهُ لَمْ يَـبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا المُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ )) [رواه مسلم].
رابعا: من أجل ذلك فينبغي الحذر كلّ الحذر من ادّعاء الرّؤيا !
قال الطّبري رحمه الله:
" إنّما اشتدّ فيه الوعيد لأنّ الكذب في المنام كذبٌ على الله أنّه أَرَاه ما لم يره، والكذب على الله أشدّ من الكذب على المخلوقين لقوله تعالى:{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } [هود:18] الآية..
وإنما كان الكذب في المنام كذبا على الله لحديث (( الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ )) وما كان من أجزاء النبوة فهو من قبل الله تعالى " اهـ.
وقد روى البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَلَنْ يَفْعَلَ )).
- قوله: ( مَنْ تَحَلَّمَ ) أي: من تكلّف الحلم.
- وقوله ( كُلِّف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل ) في رواية عند أحمد: " عُذِّب حتّى يعقد بين شعيرتين وليس عاقدا ".
- قال ابن أبي جمرة رحمه الله:" ومعنى العقد بين الشعيرتين أن يفتل إحداهما بالأخرى، وهو مما لا يمكن عادة ".
- وقال:" ومناسبة الجمع بين الكاذب في منامه والمصوّر: أنّ الرؤيا خلق من خلق الله وهي صورة معنوية، فأدخل بكذبه صورة لم تقع، كما أدخل المصوّر في الوجود صورة ليست بحقيقية، لأنّ الصورة الحقيقية هي التي فيها الروح ...".
- وقال:" والحكمة في هذا الوعيد الشّديد أنّ الأوّل كذب على جنس النبوّة، وأنّ الثاني نازع الخالق في قدرته ".
- ومن اللّطائف ما قاله بعض أهل العلم:" إنّ اختصاص الشّعير بذلك، لما في المنام من الشعور بما دل عليه فحصلت المناسبة بينهما من جهة الاشتقاق " [انظر " فتح الباري "].
[1] في بعض الرّوايات في غير الصّحيحين أنّ رؤياه دامت ستّة أشهر.
[2] أي: شابا، فهو يتمنّى الشّباب للكدح لا للمتعة، للبذل والتّضحية لا للّهو والتّسلية، للعطاء والفداء، لا للّعب والسّمر والغناء..لرسالة جديدة ونبيّ يُتربّص به خلف أشجار مكّة.