قال ابن إسحاق رحمه الله:" بلغ صلّى الله عليه وسلّم واديا يقال له " ذِفْران "، حتّى إذا كان ببعضه نزل، وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عِيرَهم، فاستشار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم النّاس وأخبرهم عن قريش ".
فكيف علم بخروج قريش ؟ وكيف علم عددهم ؟ ولماذا نراه يستشير النّاس مرّة أخرى وهم قد أعلنوا له الولاء التّام ولو خاض بهم البحر ؟
إنّها أسئلة لا بدّ من الإجابة عنها.
أمّا السّؤال الأوّل: فكيف علم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بخروج قريش ؟
فهذا يجيبنا عنه أنس بن مالك رضي الله عنه؛ فقد روى مسلم وأبو داود - واللّفظ له - عن أنسٍ رضي الله عنه أنّ رسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم نَدَبَ أَصْحَابَهُ، فَانْطَلَقُوا إِلَى بَدْرٍ، فَإِذَا هُمْ بِرَوَايَا[1] قُرَيْشٍ، فِيهَا عَبْدٌ أَسْوَدُ لِبَنِي الْحَجَّاجِ، فَأَخَذَهُ أَصْحَابُ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ:
أَيْنَ أَبُو سُفْيَانَ ؟ فيَقولُ: وَاللهِ مَالِي بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ عِلْمٌ، وَلَكِنْ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ جَاءَتْ فِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ، وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ ! فَإِذَا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ، فَيَقُولُ: دَعُونِي ! دَعُونِي أُخْبِرْكُمْ ! فَإِذَا تَرَكُوهُ، قَالَ: وَاللهِ مَالِي بِأَبِي سُفْيَانَ مِنْ عِلْمٍ، وَلَكِنْ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ فِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ، وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، قَدْ أَقْبَلُوا.
وَالنَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يُصَلِّي، وَهُوَ يَسْمَعُ ذَلِكَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لَتَضْرِبُونَهُ إِذَا صَدَقَكُمْ، وَتَدَعُونَهُ إِذَا كَذَبَكُمْ، هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ لِتَمْنَعَ أَبَا سُفْيَانَ )).
ولنا أن نتصوّر وقعَ هذا الخبر على قلوب الصّحابة .. فالأمر لم يكن بالحسبان، ولم يخرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولا أحدٌ من أصحابه لقتال جيش المشركين، إنّما خرجوا لترصّد عير قريش الّتي بها أموالهم، فلم يحتَجْ ذلك إلى جيش، ولم يأمر صلّى الله عليه وسلّم بالخروج: (( إِلَّا مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا )).
فلا بدّ إذن من إعادة الحسابات.. ولا بدّ من معرفة حجم الأخطار القادمة .. فهل يمكن أن تكون هذه المواجهة تهوّرا ؟ أو لا بدّ من الانسحاب للحفاظ على صفوة الأمّة ونواتها الأولى.
فبدأ صلّى الله عليه وسلّم في تقدير الأمور، فقصد ذلك المشركَ يسأله دون ضرب ولا تعنيف .. ولا سياط ولا حبال .. يريد منه معرفة الجواب عن السّؤال الثّاني:
كم عددهم ؟
روى الإمام أحمد بسند صحيح عن علِيٍّ رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال للرّجل: (( كَمْ الْقَوْمُ ؟))، قال: هُمْ - وَاللهِ - كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ، شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ ! فَجَهَدَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم أَنْ يُخْبِرَهُ كَمْ هُمْ ؟ فَأَبَى، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم سَأَلَهُ: (( كَمْ يَنْحَرُونَ مِنْ الْجَزُورِ ؟ )) فَقَالَ: عَشْرًا كُلَّ يَوْمٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( الْقَوْمُ أَلْفٌ، كُلُّ جَزُورٍ لِمِائَةٍ )).
بذكائه صلّى الله عليه وسلّم توصّل إلى عددهم.. إذن فعددهم ألف.. ولو التفت إلى أصحابه لرآهم بضعة عشر وثلاثمائة.
ألف مشرك يكشّر عن أنيابه، ويسلّ سيوفه ويُخرج أحقاده .. فقد أوعبت قريش في الخروج، فلم يتخلّف من أشرافهم أحدٌ سوى أبي لهب، فإنّه عوّض عنه رجلاً كان له عَليه دين، ولم يتخلّف عنهم أحد من بطون قريش إلاّ بني عديّ، فلم يخرج معهم منهم أحد.
ولكنّه صلّى الله عليه وسلّم ما رأى في وجوه إخوانه وأصحابه الخوف والفزع، فما بايعوه إلاّ لمثل هذا.. ولكنّ فريقا من المؤمنين كره القتال، لا خوفا من المشركين، ولكنّهم خافوا على نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم، وعلى دولتهم الفتيّة .. فما للقتال خرجوا، وما لهذه الجموع احتسبوا.
لقد رأى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في وجوه بعض أصحابه العزم والشّجاعة.. ورأى في وجوه بعضهم الآخر الشّجاعة والكراهية..
ووصف الله تبارك وتعالى تلك المشاعر فقال:{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)} [الأنفال].
روى البخاري عن كعْبِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه يقولُ:" لَمْ أَتَخَلَّفْ عنْ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم في غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي تَخَلَّفْتُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعَاتَبْ أَحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ، حَتَّى جَمَعَ اللهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ ".
عندئذ جاءت: المشاورة الثّانية.
والمحقّقون من أهل العلم كالحافظ ابن حجر رحمه الله أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم استشارهم في غزوة بدر مرّتين:
الأولى: وهو بالمدينة أوّل ما بلغه خبر العير مع أبي سفيان، ففي رواية مسلم:" أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان".
والثّانية: كانت بعد أن خرج كما في الحديث الآتي:
فإنّ ذلك الوادي "ذفران" سيظلّ شاهدا على مشهد لم ولن يرى مثله .. فقد روى ابن إسحاق عن عروة بن الزّبير عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال:
" وأتاه صلّى الله عليه وسلّم الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار النّاسَ وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه فقال وأحسن، ثمّ قام عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فقال وأحسن، ثمّ قام المقداد بن عمرو رضي الله عنه فقال:
" يا رسول الله ! اِمْض لما أراك الله، فنحن معك، واللهِ لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، ولكنْ اذهبْ أنت وربّك فقاتلا، إنّا معكما مقاتلون، فوالّذي بعثك بالحقّ ! لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتّى تبلغه ".
وتأثّر الصّحابة بمقام هذا الرّجل، فصاروا يغبطونه عليه كلّما تذكّروه، روى البخاري وأحمد عن ابنِ مسعُودٍ رضي الله عنه قال:" شَهِدْتُ مِنْ المِقْدَادِ بنِ الْأَسْوَدِ مَشْهَدًا، لَأَنْ أَكُونَ صَاحِبَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ[2]، أَتَى النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: لَا نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى:{اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَخَلْفَكَ، قَالَ: فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم أَشْرَقَ وَجْهُهُ وَسَرَّهُ - يَعْنِي قَوْلَهُ -".
وعندئذ نطق سيّد الأنصار: سعد بن معاذ رضي الله عنه، وكلامه وموقفه له وزن في قلوب المؤمنين، فقال:
" يا رسول الله ! قد آمنّا بك، وصدّقناك، وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحقّ، وأعطيناك على ذلك عهودَنا ومواثيقَنا على السّمع والطّاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالّذي بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحرَ فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منّا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غدا.. إنّا لصُبُر عند الحرب، صُدُق عند اللّقاء..ولعلّ اللهَ يريك منّا ما تَقِرُّ به عينك.. فسر بنا على بركة الله !
فسُرَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقول سعد رضي الله عنه،ونشّطه ذلك.[3]
وجاءت البشرى من الله تعالى عندئذ:{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: من الآية7].. وعد صادق، وأمن يملأ الأجواء..فأزال الله به الخوف، وغرس في قلوبهم الطّمأنينة.. فقال لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
(( سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ ! وَأَبْشِرُوا ! فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ.. وَاللهِ لَكَأَنِّي الآنَ أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ القَوْمِ )).
فقد اختار الله لنبيّه إحدى الطّائفتين.. فالطّائفة الأولى ذات الشّوكة وهي القتال.. والأخرى غير ذات الشّوكة وهي العِير..
روى الطّبراني (4/209) والإمام الطبريّ عن أبي أيّوب الأنصاري رضي الله عنه قال:" فلمّا وعدنا إحدى الطّائفتين إمّا القومَ، وإمّا العير طابت أنفسنا ".
وطاب المسير، وانطلق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه نحو بدر.