الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فظاهر الحديث يدلّ على وجوب الزّيادة على قراءة الفاتحة في الصّلاة ولو آية، إلاّ أنّه يمكن الإجابة عن ذلك بأحد ثلاثة أوجه:
1- أنّ هناك ما يدلّ على مجرّد الاستحباب، من ذلك:
ما رواه ابن خزيمة عن ابن عبّاس رضي الله عنهما ( أنّ النّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يَقْرَأْ فِيهِمَا إِلاَّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ).
وما رواه البخاري عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال:" فِي كُلِّ صَلَاةٍ يُقْرَأُ، فَمَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أَسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا أَخْفَى عَنَّا أَخْفَيْنَا عَنْكُمْ، وَإِنْ لَمْ تَزِدْ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ أَجْزَأَتْ، وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ ".
2- أنّ الوجوب يقف عند قوله ( بِأُمِّ الْقُرْآنِ )، فتكون زيادة ( فَصَاعِداً ) جاءت للدّلالة على الكمال، وهو أسلوب عربيّ.
مثاله: لو كنت تُلزم عامِلَك بأن يعمل ثماني ساعات، فتقول له: ( لن أقبل إلاّ إذا عملت ثماني ساعات فصاعداً ). فلو عمل ثماني ساعات صحّ ذلك منه، ولو زاد كان أفضل.
3- أنّ زيادة ( فَصَاعِداً ) جاءت لدفع توهّم الحصر، أي: حتّى لا يظنّ السّامع أنّ المشروع هو قراءة الفاتحة فحسب، قال الإمام البخاري رحمه الله في " جزء القراءة ":" هو نظير قوله: (( تُقْطَعُ اليَدُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا ))"، أي: إنّ قطع اليد لا يُشرع في ربع دينار فحسب، ولكن يشرع فيما زاد على ذلك.
تنبيهان مهمّان:
الأوّل: قول القائل:" بأنّ النصّ يردّ على ابن قدامة رحمه الله "، فهو كلام صحيح لو كان ابن قدامة رحمه الله نقل رأياً أو ذكر قياساً، أمّا وهو قد نقل اتّفاق أهل العلم، فلا يصحّ أن يُردّ كلامه إلاّ بذكر المخالف من أهل العلم.
فإنّ المقرّر في علم الأصول أنّ الأمرَ قد يُصرف عن الوجوب إذا لم يُعلم أنّ أحدا من أهل العلم قال بالوجوب.
ومن أمثلة ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ فيِ السَّحُورِ بَرَكَةً )) [رواه الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه].
فظاهر الأمر الوجوب، لكنّ أحدا من العلماء لم يقل بوجوبه فيما نعلم كما قال الحافظ رحمه الله في " الفتح "(4/139).
قال الإمام السّيوطي رحمه الله:
" إنّ النّفي إذا كان من أهل الاستقراء التامّ فإنّه يُقبل ويُعتمد، وقد جرى على ذلك أهل الحديث، وأهل الفقه، وأهل العربيّة لغةً ونحوًا وتصريفاً، وأهل البلاغة معانيَ وبياناً وبديعاً، وأهل العروض، في مسائل يطول سردها ..." ["صون المنطق والكلام عن علم المنطق والكلام " (ص3)].
الثّاني: الإجماع في هذه المسألة قد نقله أيضا ابن حبّان والقرطبي رحمهما الله، لكنّه منقوض؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" وفيه نظر لثبوته عن بعض الصّحابة ومن بعدهم فيما رواه ابن المنذر وغيره ".
وقال في موضع آخر:" وصح إيجاب ذلك عن بعض الصّحابة ... وهو عثمان بن أبي العاص، وقال به بعض الحنفيّة، وابن كنانة من المالكيّة، وحكاه القاضي الفرّاء الحنبليّ في "الشّرح الصّغير: رواية عن أحمد ".
فبما أنّ الخلاف قد ثبت فلا يمكن ادّعاء الإجماع، ولكن تبقى الحجّة على الاستحباب ما ذكرناه من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما.
والله تعالى أعلم.