مضى جلّ شهر جمادى الآخرة من العام الثّاني من الهجرة، وسيُهلّ شهر رجب، وهو من الأشهر الحرم.
فقبل أن يدخل عليهم شهرٌ حرام، بعث النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم عبدَ الله بن جحش رضي الله عنه على سريّة يستطلع أخبار المشركين، عُرفت تلك السريّة بعد ذلك بـ: ( سريّة نخلة ).
روى ابن إسحاق والطّبري وغيرهما عن عروة بن الزّبير قال:
" بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبدَ الله بن جحش بن رئاب الأسديّ رضي الله عنه في رجب مقفلَه من بدر الأولى، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتّى يسير يومين، ثمّ ينظر فيه فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحدا.
وكان أصحاب عبد الله بن جحش من المهاجرين:
حذيفة بن عتبة بن ربيعة ... وعكاشة بن محصن ... وعتبة بن غزوان، وسعد بن أبي وقّاص ... وعامر بن ربيعة، وواقد بنُ عبد الله ... وخالد بن البكير ... وسهيل بن بيضاء، رضي الله عنهم جميعاً.
فلمّا سار عبد الله بن جحش يومين، فتح الكتاب فنظر فيه، فإذا فيه: (( إِذَا نَظَرْتَ فِي كِتَابِي هَذَا، فَامْضِ حَتَّى تَنْزِلَ "نَخْلَةَ" بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، فَتَرَصَّدْ بِهَا قُرَيْشاً، وَتَعَلَّمْ لَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ )).
فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال: سمعاً وطاعةً.
ثمّ قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أمضي إلى نخلة أرصُد بها قريشا حتّى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدا منكم، فمن كان منكم يريد الشّهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأمّا أنا فماضٍ لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فمضى، ومضى معه أصحابه، لم يتخلّف عنه منهم أحد.
وسلك على الحجاز، حتّى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له ( بُحران )، أضلّ سعدُ بنُ أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرًا لهما كانا يعتقبانه، فتخلّفا عليه في طلبه.
ومضى عبد الله بن جحش وبقيّة أصحابه، حتّى نزل بنخلة، فمرّت به عِيرٌ لقريش تحمل زبيباً، وأدما، وتجارة من تجارة قريش فيهما عمرو بن الحضرمي وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميّان، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة.
فلمّا رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريبا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن - وكان قد حلق رأسه - فلمّا رأوه أمِنوا، وقالوا:
عُمّارٌ [أي: يريدون العُمرة] لا بأس عليكم منهم.
وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب، فقال القوم:
والله لئن تركتم القوم هذه اللّيلة ليدخلنّ الحرم فليمتنعُنّ منكم به، ولئن قتلتوهم لتقتلنّهم في الشّهر الحرام !
فتردّد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجّعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم، فرمى واقدُ بنُ عبد الله التّميمي عمرَو بنَ الحضرميّ بسهم، فقتله، واستُأسِر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت القومَ نوفلُ بن عبد الله فأعجزهم.
وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابُه بالعير وبالأسيرين حتَّى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة.
حدث كلّ ذلك، وهم يظنّون أنّهم في آخر يوم من جمادى الآخرة، وغفلوا أنّهم في أوّل رجب شهرٍ حرام !
وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أنّ عبد الله قال لأصحابه: إنّ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ممّا غنمنا الخمس، وذلك قبل أن يفرض الله تعالى الخمس من المغانم.
فعزل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خُمُسَ العِير، وقسم سائرَها بين أصحابه.
فلمّا قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة قال: (( مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ )).
وأبَى أن يأخذ من العِير والأسيرين شيئا، فلمّا قال ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سُقِط في أيدي القوم [أي: ندموا ندما شديدا]، وظنّوا أنّهم قد هلكوا، وعنّفهم إخوانُهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالوا لهم: صنعتم ما لم تؤمروا به !
وقالت قريش: قد استحلّ محمّدٌ وأصحابُه الشّهر الحرام، فسفكوا فيه الدّم ! وأخذوا فيه الأموال ! وأسروا فيه الرّجال !
فقال من يردّ عليهم من المسلمين ممّن كان بمكّة: إنّما أصابوا في جمادى.
وقالت يهود - تتفاءل بذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم -: عمرو بن الحضرميّ قتله واقد بن عبد الله، عمرو: عمّرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله: وقدت الحرب !
فلمّا أكثر النّاس في ذلك أنزل الله على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217].
أي: إن كنتم قتلتم في الشّهر الحرام - مع أنّكم أخطأتُم -، فاعلموا أنّ هؤلاء:
أ) قد صدّوكم عن سبيل الله عزّ وجلّ.
ب) مع الكفر به، والكفرُ بالله أكبرُ عند الله من قتل من قتلتم منهم.
ج) وصدّوكم عن المسجد الحرام.
د) وأخرجُوكم منه - وأنتم أهله -.
هـ){وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} أي: ثمّ مع ذلك هم مقيمون على أخبث من ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين.
فلمّا نزل القرآن بهذا الأمر، وفرّج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشّفق، قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العيرَ والأسيرين.
وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( لاَ نَفْدِيكُمُوهُمَا حَتَّى يَقْدِمَ صَاحِبَانَا - يعني سعدَ بنَ أبي وقَاص وعبتةَ بن غزوان - فَإِنَّا نَخْشَاكُمْ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ تَقْتُلُوهُمَا نَقْتُلْ صَاحِبَيْكُمْ )).
فقدم سعدٌ وعتبة، فأفداهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهم، فأمّا الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتّى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأمّا عثمان بن عبد الله فلحق بمكّة، فمات بها كافرا.
عبرتان:
1- نلحظ كيف انتصر الله تعالى لعباده من فوق سبع سماوات، وبرّأ ساحتهم البيضاء من الشّرك وأهله، وأنّ أخطاءهم مهما كانت فهي تذوب في بحر حسناتهم، وأمام مستنقعات سيّئات المشركين، والّتي أعظمها الشّرك بالله وصدّ النّاس عن سبيل الله، وكأنّ الله تعالى يعلّمنا تصحيح المفاهيم، وعدم الانجراف أمام الأغاليط.
فإذا أخطأ المسلمون - هذا إن ثبت عنهم -، وقتلوا وسفكوا، فأين ذلك أمام: الحروب الصّليبيّة، والاستعمار للدّول العربيّة والإسلاميّة، وإطلاق القنابل الذرّية، وإبادة شعوب بكاملها، وغير ذلك ممّا لا يُحصَى ؟!
2- كما نلحظ أيضا أنّ الله تعالى أراد أن يُمحّص المؤمنين، ويُظهر مدى صبرهم على الابتلاء، ومدى انقيادهم لأوامر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ليكون الجهاد مبنيّا من أوّل يوم على الإخلاص لله وحده، ومتابعة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وحده.
والله الموفّق لا ربّ سواه.