فنواصل اليوم ذكرَ ما بقي من هذه الأسباب .. أسباب علوّ الهمّة للوصول إلى منازل الأحباب ..
8- البعد عن المعاصي والسّيئات:
فإنّ الله حكيم عدل لا يظلم مثقال ذرّة ولا أقلّ من ذلك، وما كان الله تعالى ليسلُب عبدَه الهمّة إلاّ بإصراره على الذّنوب، والبعد عن علاّم الغيوب ..
وإلاّ فإنّ الله عزّ وجلّ يقول:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذَا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مسْتَقِيمًا}، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، وقال جلّ ذكره:{يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وقال تعالى عن يوسف عليه السّلام:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالفَحْشَاءَ}، وقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)} [الأحزاب]، وقال سبحانه:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}.
هذا جزاء على الطّاعات بالطّاعات، وأمّا الجزاء بالمعاصي على المعاصي فكقوله:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصّف:5]، وقال:{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19].
شكا أحدهم إلى الحسن رحمه الله قائلا: لا أقوى على قيام اللّيل ؟! فقال: كبّلتك خطيئتك بالنّهار.
وقيل لوهيب بن الورد: أيجد حلاوةَ الطّاعة من عصى ؟ قال: لا، ولا من هَمَّ بِها.
والمقصود بالمعاصي هو: الإدمان عليها، وأن تكون في جدول أعمالك، وترافقك في حال من أحوالك، وإلاّ فإنّ العصمة محال.
فكثير من النّاس لديه في ذهنه معصيةٌ لا بدّ من زيارتها، ولا بدّ من أن يقرّب شيئا من وقته إليها .. ومعلوم أنّ هذا يورِثُ وحشةً في القلب، والإيمان يزيد بالطّاعة، وينقص بالمعصية.
9-الوعي بصعوبة الطّريق:
فكثير من النّاس يظنّ أنّ الطريق مفروش بالورود، مليئ بالوعود، وهو يغفل أنّه لا بدّ من أن يُصادفه قُطّاع في الطّريق، يمنعونه ويُثبّطونه، سواء كانوا من الأهل والأحباب، أو الأعداء أو الأصحاب..
{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت: من الآية43]، لذلك كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعلّم أصحابَه أحاديثَ الفتن بجميع أنواعها، حتّى تكون النّفوس مهيّأة لاستقبالها .. حتّى إذا جاءت الفتن تطلّ برؤوسها، وتريد أن تهشمك بفؤوسها، كنت ممّن قال فيهم المولى:{وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22].
فيا مخنَّثَ العزمِ ! أين أنت والطّريق طريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، وأُلْقِيَ في النّار الخليل، وأُضجِع للذّبح إسماعيل، وبِيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السّجن بضع سنين، ونُشِر بالمنشار زكريّا، وذُبِح السيّد الحصور يحيى، وقاسى الضرَّ أيّوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقرَ وأنواعَ الأذى محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ تلهو أنت وتلعب ؟!
فيا دارها بالحَزْن إنّ مزارها *** قريب، ولكنْ دون ذلك أهوال
10-ترقّب الأوقات الفاضلة:
فإنّ هذا ممّا يُنشّط النّفس ويقوّي الإرادة.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ )). أي: التمس الصّواب وحاول بلوغه، واستعن بأوقات السّحر فإنّ النّفس هناك تُزوّد بما يحرّكها النّهار كلّه.
ولذلك فرض الله على المسلمين قيام اللّيل أوّل الإسلام، روى مسلم عن سعدِ بنِ هشامِ بنِ عامرٍ قال:
انْطَلَقْنَا إلى عَائِشَةَ رضي الله عنها فقلت: أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ؟ فَقَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ اللهَ عزّ وجلّ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ فَقَامَ نَبِيُّ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا، وَأَمْسَكَ اللهُ خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فِي السَّمَاءِ حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ التَّخْفِيفَ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ.
غذّاهم الله تعالى بقيامهم بين يديه، حتّى ضربوا أروعَ المثل في السّباق إليه !
11-المرأة الصّالحة:
روى مسلم عن عبدِ اللهِ بنِ عمْرٍو رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ )).
وروى التّرمذي وابن ماجه عن ثوبانَ رضي الله عنه قال: لَمَّا نَزَلَتْ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}، قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أُنْزِلَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَا أُنْزِلَ ! لَوْ عَلِمْنَا أَيُّ الْمَالِ خَيْرٌ فَنَتَّخِذَهُ ؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: (( أَفْضَلُهُ لِسَانٌ ذَاكِرٌ، وَقَلْبٌ شَاكِرٌ، وَزَوْجَةٌ مُؤْمِنَةٌ تُعِينُهُ عَلَى إِيمَانِهِ )).
وتأمّل تلك الهمّة العالية الّتي اتّصفت بها خديجة رضي الله عنها، فكان من ورائها الفتح المبين والنّصر العظيم: (( كلاّ، والله لا يُخزيك الله أبدا، إنّك لتصل الرّحم، وتحمل الكلّ، وتعين على نوائب الحقّ )).
لئن كان النّساء كما ذُكِرْنَ *** لفُضّلت النّساء على الرّجال
قال مسلمة بن عبد الملك رحمه الله:" ما أعان على مروءة المرء كالمرأة الصّالحة ".
وقال الشّاعر:
إذا لم يكُن في منزل المرء حُرّةٌ *** مدبِّرةٌ ضاعت مروءةُ الدّار
وهذه ابنة سعيد بن المسيّب لمّا دخل بها زوجها أبو وداعة، وكان طالبا عند والدها، فلمّا أصبح أخذ رداءه يريد أن يخرج فقالت: إلى أين تريد ؟ فقال: إلى مجلس سعيد أتعلّم العلم. فقالت: اجلس أعلّمك علم سعيد.
وهذه عَمْرَةُ زوجة أبي محمّد حبيب العجميّ تحثُّه على القيام، فتقول له: قم يا سيّدي، فهذا اللّيل قد أدبر، وهذا النّهار قد أسفر، وبين أيدينا طريق طويل وزاد قليل، وهذه قوافل الصّالحين قد سارت أمامنا ونحن قد بقينا.
الخطبة الثّانية ..
الحمد لله على إحسانه، وعلى جزيل نعمه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله الدّاعي إلى سبيله ورضوانه، اللهمّ صلّ عليه وسلّم وعلى أصحابه وآله، وعلى كلّ من اتّبع سبيله وسار على منواله، أمّا بعد:
فإنّنا نختم ذكر أسباب علوّ الهمّة بأعظم الأسباب، وأوسع الأبواب، وأكثرها دفعا إلى العزيز الوهاب .. إنّه:
12- تذكّر الجنّة ..
فتلك الدّار هي نهاية السّباق .. محطّ رحال المؤمنين، ومنتهى سباق الصّالحين .. هناك حيث البهاء والكمال .. حيث الهناء والجمال .. فعجبا كيف ترى النّاس عنها يتكاسلون، ولطلبها والسّعي إليها لا يُشمّرون ؟!
روى التّرمذي بسند حسن عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَا رَأَيْتُ مِثْلَ النَّارِ نَامَ هَارِبُهَا، وَلَا مِثْلَ الْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا )).
ولم يجد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما يشحذ به همم أصحابه على الصّبر على الأذى مثل أن يذكّرهم بما أعدّه الله لهم في بلاد الأفراح:
فقد روى الحاكم بسند صحيح عن عمّار بن ياسر رضي الله عنه - وكان بنو مخزوم يعذّبونهم -، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( صَبْراً يَا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمْ الجَنَّةُ )).
إنّها الجنّة بأنفاسها الرضيّة النديّة .. تتجلّى عليها طلعة الرّحمن الجليلة البهيّة.
الجنّة الّتي اشتاق إليها النبيّون والصدّيقون والشّهداء والصّالحون.
ولو تخيّل العبدُ لحظةً واحدة أنّه سيُحرم من دخولها مع الفائزين لشمّر عن ساعد الجِدّ، وبادر إلى الكدّ.
لو تخيّل العبد لحظة أنّه سيُحرم النّظر إلى وجه الله الكريم الّذي أشرقت له السّموات والأرض لما ظلّ مع القاعدين، ولزاحم المتنافسين.
لو تخيّل العبد لحظة أنّه سيحرم الجلوس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أرائكها، والمشي معه في أرضها، ومصاحبته في جنباتها، لبادر إلى العمل، وما تعلّق بحبال الأمل ..
وما كان شيء أشدّ على أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أن يتخيّلوا أنفسهم لا يرافقون نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم ..
روى الطّبراني في "المعجم الكبير"[1] عن ابن عبّاس رضي الله عنه:
" أنّ رجلا أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، إني لأحبّك [وفي رواية: إنّك لأحبّ إليّ من نفسي وإنّك لأحبّ إليّ من أهلي ومالي، وأحبّ إليّ من ولدي] حتّى إنيّ لأذكرك، فلولا أنيّ أجئ فأنظر إليك ظننت أن نفسي تخرج، [وفي رواية: أكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتّى آتيك فأنظر إليك] فأذكر أنّي إن دخلت الجنّة صِرْتُ دونك في المنزلة ! فشقّ ذلك عليّ، وأحبّ أن أكون معك في الدّرجة.
[وفي رواية: وإذا ذكرت موتي وموتك، عرفت أنّك إذا دخلت الجنّة رُفعت مع النبيّين، وإن دخلت الجنّة خشيت ألاّ أراك].
فلم يردّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا، فأنزل الله عزّ وجلّ:{وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [أي: ما أعظمها وما أحسنها من رفقة]، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتلاها عليه.
إذن، فإنّ الأمر لا يكمن إلاّ في طاعة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم .. وكانت تلك من أعظم البُشْرَيَاتِ لأصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ..{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
فالطّاعة هي عنوان محبّة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ..
روى البخاري ومسلم عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: جاءَ رَجُلٌ إلى رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ ؟ فقال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ )).
زاد التّرمذي عن أنَسٍ رضي الله عنه:" فَمَا رَأَيْتُ فَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحَهُمْ بِهَذَا ".
تلكم هي الجنّة الّتي اشتاق إليها أصحاب الهمم العالية، وطالبو المنازل الغالية:
- عُمير بن الحُمام رضي الله عنه:
ففي صحيح مسلم عن أنَسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: انْطَلَقَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم وأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إلى بَدْرٍ، وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ )).
فقال عُمَيْرُ بنُ الحُمَامِ الأنصاريُّ رضي الله عنه: يا رَسُولَ اللهِ ! جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ؟!
قَالَ: (( نَعَمْ )) قَالَ: بَخٍ ! بَخٍ ! فقالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ ؟)).
قال: لا واللهِ يا رسولَ اللهِ، إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قال: (( فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا )).
فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ ! قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ. وهو يقول:
ركضاً إلى الله بغير زاد *** إلاّ التّقى وعمل المعاد
- سلوا عنها جعفر الطيّار رضي الله عنه:
روى أبو ادود وابن إسحاق - واللّفظ له - عن أحد الصّحابة فِي غزاةِ مُؤْتَةَ، قال: وَاللهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى جَعْفَرٍ حِينَ اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ فَعَقَرَهَا[2]، ثُمَّ قَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ وهو يقول:
يا حبّذا الجنّة واقترابها *** طيّبة وباردا شرابهـا
والرّوم قد دنا عذابها *** كافرة بعيدة أنسابـها
عليّ إذا لاقيتها ضرابها
أمّا كيف قتل ؟.. فعلى طريقته الخاصّة .. على طريقته الخارقة ..
فقد عقر ناقته الشّقراء ثمّ استقبل الرّوم حاملا راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده اليُمنى .. متلقّيا الطّعنات والضّربات بالرّماح والسّيوف حتّى قُطِعت يده اليمنى !
وواصل حاملا الرّاية بيده اليسرى حتّى قطعت ..
وواصل يرحّب بتلك الطّعنات وهو يحتضن الرّاية بعضُديه .. حتّى خرّ شهيدا بجسده على أرض مؤتة ..
ولكنّه حلّق بعيدا بعيدا بعيدا إلى دار الأحلام ودار السّلام .. وسمّي بـ( جعفر الطّيّار ) أو بـ( ذي الجناحين ) لما أعاضه الله تعالى بجناحين من الجنّة.
روى الطّبرانيّ والحاكم وغيرهما بسند حسنٍ عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه قالَ: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( رَأَيْتُ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مَلَكاً يَطِيرُ فِي الجَنَّةِ ذَا جَنَاحَيْنِ يَطِيرُ بِهِمَا حَيْثُ يَشَاءُ )).. أصحاب الهمم العالية لا يحلّقون إلاّ عاليا.
- سلوا عنها عبد الله بن غالب رحمه الله..
رآه مالك بن دينار في إحدى المعارك وسمعه يقول وقد تلاحمت الصّفوف، وتداخلت السّيوف: إنّي أرى ما لا صبر عليه! روحوا بنا إلى الجنّة .. فما زال يقاتل حتّى قتل ..
ها هي السّلعة .. فأين هي الهمّة ؟ اعملوا لها بقدر شوقكم إليها !
يا سلعة الرّحمن، لست رخيصة *** بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرّحمن، ليس ينـالها *** في الألف إلاّ واحد لا اثنـان
يا سلعة الرّحمن، سوقك كاسد *** بين الأراذل سفـلة الحيـوان
يا سلعة الرّحمن أين المشتري ؟ *** فلقد عُرضت بأيسـر الأثمان
يا سلعة الرّحمن كيف تصبّر ال *** خطّاب عنك، وهم ذوو إيمان
وتنالها الهمم الّتي تسمو إلـى *** ربّ العلـى، بمشيئة الرّحمـن
فاللهمّ أنت أصلحت الصّالحين، فأصلح قلوبنا، وأعلِ هممنا، واجعلنا كما تريد لا كما نريد، واجعل أنفاسنا وحركاتنا وسكناتنا وقفا علييك، وخذ بأيدينا إليك.
[1] وفي "المعجم الصّغير" عن عائشة، وأبو نعيم في "الحلية"، والواحديّ في "أسباب النّزول"، وحسّنه الضّياء المقدسيّ وله شواهد عدّة، لذلك صحّحه الشّيخ مقبل رحمه الله في "الصّحيح المسند من أسباب النّزول" (ص80).
[2] ( فعقرها ): قال في " النّهاية ":" أصل العقر ضرب قوائم الإنسان بالسّيف وهو قائم ". قال الخطّابي:" وهذا يفعله النّاس في الحرب إذا أرهق وأيقن أنّه مغلوب، لئلاّ يظفر به العدوّ، فيتقوّى به على قتال المسلمين ".