وفي رواية النّسائيّ: (( مَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ قَبْلَ الفَجْرِ فَلاَ صِيَامَ لَهُ ))، وللدّارقطني: (( لاَ صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَفْرِضْهُ مِنَ اللَّيْلِ )).
وهذا الحديث اختلفوا في رفعه ووقفه:
أ) فاختار وقْفَه الإمامُ البخاري، والتّرمذي، والنّسائيّ، وابن عبد البرّ، وغيرهم رحمهم الله، وقالوا: إنّ رفعَه مضطرب.
ب) وصحّحه مرفوعا ابنُ خزيمة، والحاكم، وابن حبّان، وابن حزم، وغيرهم رحمهم الله.
فاتّفقوا جميعهم على أنّه صحّ موقوفا على ابن عمر وحفصة رضي الله عنهما.
فعلى قول من صحّحه مرفوعا، فلا شكّ في حجّيته، وعلى قول من صحّحه موقوفا فهو حجّة أيضا؛ إذْ لا يُعلم لحفصة وابن عمر رضي الله عنهما مخالِف من الصّحابة رضي الله عنهم.
لذلك، ذهب جمهور أهل العلم بما فيهم الأئمّة الأربعة على أنّ صِيام الفريضة لا يُجزِئ إلاّ بنيّة قبل الفجر، ونقصِد بالفرض: صوم رمضان، أو قضاؤه، أو الكفّارات، أو النّذر.
ولكن - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - أنّ النيّة تتبع العلمَ، والشّرائع لا تلزم إلاّ بعد بلوغها للمكلّف، فمن لم يعلَم أنّ اللّيلة من رمضان، ونام على هذا، فطلع عليه الفجر وهو لم ينْوِ صياماً، فإنّه يمسِك فورَ علمه، ويُتمّ صيامه.
( مسألة ) هل النيّة شرطٌ في صوم النّفل.
اختلف أهل العلم في ذلك على أربعة أقوال، نذكرها بدءاً بالأشدّ فالأخفّ:
- القول الأوّل: وجوب انعقاد النيّة في صوم الفريضة والنّافلة معاً.
وهو قول الإمام مالك، واللّيث، وابن أبي ذئب، وابن حزم رحمهم الله.
واستدلّوا بحديث حفصة رضي الله عنها السّابق، ووجه الدّلالة: أنّ اللّفظ عامّ، فيشمل الفرض والنّفل معاً. وعزّزوا ذلك بما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:" لا يصومُ تطوّعاً حتّى يُجْمِع من اللّيل " ["فتح الباري" (4/141)].
- القول الثّاني: وجوب انعقاد النيّة في الفرض دون النّفل.
وهو قول الإمام أحمد، وإسحاق، والشّافعيّ في رواية، ورجّحه شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (25/120).
واستدلّوا على ذلك بحديث وآثار:
أمّا الحديث: فما رواه مسلم عن عائشةَ قالت: دَخَلَ عَلَيّ النّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: (( هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟)) فَقُلْنَا: لَا، قَالَ: (( فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ )).
وأمّا الآثار: فقد ذهب إلى القول بالتّفريق بين الفرض والنّفل جماعة من الصّحابة، منهم:
أبو طلحة رضي الله عنه، رواه البخاري تعليقا، ووصله عبد الرزّاق، وابن أبي شيبة.
أبو هريرة رضي الله عنه، رواه البخاري تعليقا، ووصله البيهقيّ.
ابن عبّاس رضي الله عنهما، رواه البخاري تعليقا، ووصله الطّحاوي بسند جيّد، ولفظه:" كان ابن عبّاس رضي الله عنه يُصبحُ حتّى يُظهرَ، ثمّ يقول: لقد أصبحت وما أريد الصّومَ، وما أكلت طعاما ولا شرابا منذ اليوم، ولأصُومنّ يومي هذا ".
حذيفة رضي الله عنه: رواه البخاري تعليقا، ووصله عبد الرزّاق، وابن أبي شيبة.
مُعاذ بن جبل، وأبو الدّرداء رضي الله عنهما [كما في "فتح الباري" (4/141)، و"تغليق التّعليق" (3/144-147)].
قالوا: فحديث حفصة عامّ، وحديث عائشة خاصّ، ولا تعارض بين العامّ والخاصّ، بل يحمل عليه كما هو مقرّر.
- القول الثّالث: وجوب انعقاد النيّة في الفرض دون النّفل، لكن بشرط أن يعقِدها قبل الزّوال.
وهو قولٌ للشّافعيّ رحمه الله وأهل الرّأي، واستدلّوا:
بحديث عائشة رضي الله عنها، فقد أمسك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قبل الزّوال.
وبما رواه البيهقيّ عن أنس رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( الصّائم بالخيار ما بينه وبين نصفِ النّهار )). وهو حديث ضعيف؛ ضعّفه البيهقيّ، وهو كما قال [انظر: "الإرواء" (4/138)].
- القول الرّابع: أنّ تبييت النيّة ليس شرطا لا في صوم الفرض ولا في النّفل، وله أن يمسك متى شاء، بشرط ألاّ يكون قد طعِم شيئا.
وهذا أضعف الأقوال؛ لمخالفته لحديث حفصة وابن عمر السّابقين.
التّرجيح: لا تعارض بين حديث حفصة وحديث عائشة رضي الله عنهما؛ لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان قد نوى الصّيام قبل الفجر، ثمّ بدا له أن يُفطر، فحين لم يجد شيئا أتمّ صومه صلّى اله عليه وسلّم.
وتأمّل قوله صلّى اله عليه وسلّم في رواية لمسلم من طريق آخر بلفظ: (( لَقَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِماً )).
وعلى ذلك تُحمل آثار من ذُكر من الصّحابة، إلاّ أثر ابن عبّاس رضي الله عنهما، فيقال حينها: إنّ الحجّة في عموم حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
الرّكن الثّاني: الإمساك.
وهو الامتناع عن شهوتي الفرج والبطن من طلوع الفجر الصّادق، إلى غروب الشّمس.
أمّا البُعد عن الرّفث، والصّخب، واللّغو، والجهل وغير ذلك من المعاصي، فتلك من واجبات الصّوم لا أركانه.
والله تعالى أعلم، وأعزّ وأكرم.