قال ابن رجب رحمه الله في " لطائف المعارف ":" كيف لا يبشّر المؤمن بفتح أبواب الجنان ؟ كيف لا يبشّر المذنب بغلق أبواب النّيران ؟ كيف لا يبشّر العاقل بوقت يغل فيه الشّيطان ؟ من أين يشبه هذا الزّمانَ زمان ؟".
فها هي إذن أبواب الجنّة ستفتّح بإذن الله بعد ساعات قليلة، فيقام سوقُها، وتتزبّن حورُها، فما على الخُطّاب إلاّ أن يعدّوا المهور، وما على التجّار إلاّ يعملوا لتجارة لن تبور ..
من يُـرِدْ مُلك الجنـان *** فلْيدَعْ عنـه التَّوَانِـي
ولْيَقُم فـي ظلمة اللّيـ *** ـلِ إلـى نور القـرآن
وليَصِلْ صومـاً بصومٍ *** إنّ هـذا العيش فانـي
إنّما العيش جوارُ اللـ *** ـه فـي دار الأمـان
وكلمتنا إليكم معاشر المؤمنين إنّما هي وصايا نزفّها إليكم، لعلّها تشحذ هممنا إلى فعل الصّالحات واغتنام مواسم الطّاعات.
الوصيّة الأولى: فنذكّر أنفسنا وإيّاكم بشكر الله تبارك وتعالى.
يقول الله تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152].. أن تَشْكرَ الله تعالى الّذي وفّقك لبلوغ هذا الشّهر.. شهر الصّبر، شهر الطّاعة والشّكر، شهر الإنابة والذّكر ..
فكم من قلوب اشتاقت وحنّت للقاء هذا الشّهر فانقطع بها القدر، وزال عنها الأثر .. صاروا اليوم في القبور واللّحود، وما عادوا من أهل الوجود ..
وكم مـن أناس رأيناهم *** تفانوا فلم يبق منهم قريب
وصاروا إلى حفرة تحتوي *** ويُسلم فيها الحبيبَ الحبيبُ
لقد أراد الله تعالى لك - أيّها العبد - أن تكون هذه السّنة ممّن يزدادون تقرّبا منه تعالى بصوم شهر رمضان وقيام ليله .. ولو قيل لأهل القبور: تمنّوا، لتمنّوا يوما من رمضان ..
ويشبه ذلك ما رواه الطّبرانيّ في "الأوسط" عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ بقبر فقال: (( مَنْ صَاحِبُ هَذَا القَبْرِ ؟)) فقالوا: فلان، فقال: (( رَكْعَتَانِ أَحَبُّ إِلَى هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ دُنْيَاكُمْ )).
فإذا كان هذا حال ركعتين فقط، فكيف بأيّام نهارها صيام، وليلها قيام، نهارها ذكر وخضوع، وليلها تهجّد وخشوع ؟!
وأضع هذا الحديث بين يديك، حتّى تتذكّر نعمة الله تعالى عليك، فقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال:
" كَانَ رَجُلَانِ مِنْ بَلِيٍّ مِنْ قُضَاعَةَ، أَسْلَمَا مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا، وَأُخِّرَ الْآخَرُ سَنَةً، قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ: فَأُرِيتُ الْجَنَّةَ، فَرَأَيْتُ فِيهَا الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا أُدْخِلَ قَبْلَ الشَّهِيدِ، فَعَجِبْتُ لِذَلِكَ ! فَأَصْبَحْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: (( أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ، وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا رَكْعَةً صَلَاةَ سَنَةِ ؟!))..
لذلك كان الصّحابة والتّابعون يسألون الله تعالى وصوله وبلوغه ..
قال يحيى بن أبي كثير رحمه الله:" كان من دعائهم: اللّهمّ سلِّمني إلى رمضان، وسلِّم لي رمضان ".
ثمّ تذكّر إخوانك، وقد أصيبوا بالأوجاع والأسقام، والأمراض والآلام، تراهم على الأسرّة البيضاء، كأنّهم في وهج الرّمضاء .. حال المرض بينهم وبين الصّيام ..وحال الوجع بينهم وبين القيام، ثمّ انظر إلى جسدك وأنت ترفُل في نعمة من الله عليك ..
فتذكّر يا من أدركت هذا الشّهر أنّك في نعمة من الله إليك أسداها .. ومنّة منه عليك أولاها .. فالهج بلسان الحال والمقال شاكرا للكبير المتعال، عندئذ ترى أنّ الله ربّ العبيد، قد آذنك بالمزيد:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
الوصيّة الثّانية: تعرّضوا إلى نفحات الله تعالى.
وقد أُثِر عن السّلف قولهم:" إنّ للهِ في أيّامِ الدّهرِ نفحاتٍ فتعرّضوا لها، فلعلّ أحدكم أن تصيبَه نفحةٌ فلا يشقى بعدها أبدا ".
هداية لا ضلال بعدها .. رُشد لا غيّ بعده .. عمل لا انقطاع عنه ..
فكم دخله من بعيد فقرّبه الله .. وكم دخله من مسيء فتاب عليه الله .. كم دخله من محروم فأعطاه الله .. كم دخله من طريد فآواه الله .. كم دخله من فقير فأغناه الله .. شهر وأيّ شهر ؟!
ومن أراد أن تمسّه مثل هذه النّفحات: فعليه أن يعزِم على العمل الصّالح، والبعدِ عن كلّ عمل طالح .. فإذا وضعت قدمك على عتبة هذا الشّهر، فاعقِدْ النيّة والعزمَ على أن تكون من السّابقين، فما نوى ذلك أحد إلاّ وفّقه الله.
وتخيّل - ولعلّه الواقع - أنّه آخر شهر في حياتك، كما هي وصيّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأهل الصّلاة: (( إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ )) [رواه أحمد وابن ماجه عن أبي أيوّب رضي الله عنه]، فصُم شهرك هذا صومَ مودّع.
وقد اجتهد أبو موسى الأشعريّ رضي الله عنه قبل موته اجتهادًا شديدًا، فقيل له: لو أمسكت أو رفقت بنفسك بعض الرّفق ؟ فقال: إنّ الخيل إذا أُرسلت فقاربت رأسَ مجراها أخرجت جميع ما عندها، والّذي بقي من أجلي أقلُّ من ذلك. قال: فلم يزل على ذلك حتّى مات.
وقال مورق العجليّ رحمه الله: ما وجدت للمؤمن في الدّنيا مثلاً إلاّ مثل رجلٍ على خشبة في البحر، وهو يقول: يا ربّ ! يا ربّ ! لعل الله أن ينجيه.
وعن أحمد بن حرب قال: يا عجبًا لمن يعرف أن الجنة تُزيَّن فوقه والنار تُسَعَّرُ تحته كيف ينام بينهما ؟
ومن أعظم الأعمال الصّالحة الّتي لا بدّ من الحرص عليها:
1- تجديد التّوبة إلى الله تعالى ..
إنّ الله تعالى قد فرض على عباده التّوبة في أكثر من آية، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التّحريم من:8]. وقال سبحانه:{وَأَنِـيبُواْ إِلَى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ}، وقال تعالى:{وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
2- الصّيام على مراد الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم:
فإنّ ثوابَ الصّيام لا يحصيه عدّ، ولا يحويه حدّ، وقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم:
( قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ )).
فكفاه فضلا أنّه كفّارة للذّنوب .. كفاه فضلا أنّه يأتي شفيعا لأهله يوم القيامة .. كفاه فضلا أنّ جُنَّة يستجنّ بها من النّار .. كفاه فضلا أنّه يُدخِل صاحبَه الجنّة .. كفاه فضلا أنّ لأهله بابا خاصّا في الجنّة لا يدخل منه سواهم.
ولكن .. هذا الفضل لا يناله كلّ صائم، فكما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ والعطش، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ )).
ولتدرك هذه الحقيقة تأمّل معي تتمّة حديث أبي هريرة السّابق: (( كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ )).
( لا يرفُث ): أي: لا يقل الكلام البذيء الفاحش القبيح .. ( ولا يصخب ): لا يرفع صوته ويصيح ..
وأين رفع الصّوت بجانبِ منكراتٍ كثيرة قد يزاولها كثير من الصّائمين ؟! كالنّظر الحرام إلى النّساء الكاسيات العاريات.. والعارضات والممثّلات.. كسماع المغنّين والمغنّيات.. كاللّهو بالنّرد والورق !
أترضى أن يعود النّاس بالثّواب والأجور، ثمّ تعود أنت بالويل والثّبور ؟!
ثمّ أين كلّ ذلك بجانب الكذب والغشّ والخيانة ؟ ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ )).
وروى ابن أبي شيبة عن عمر رضي الله عنه قال:" ليس الصّيام من الطّعام والشّراب، ولكن من الكذب والباطل واللّغو والحلف".
وروى أيضا عن جابر رضي الله عنه قال:" إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم صيامك ويوم فطرك سواء ".
وروى أيضا عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال:" إذا صُمت فتحفّظ ما استطعت ".
وروى ابن أبي الدّنيا في " كتاب الصّمت " عن عبيدة السّلماني قال: " اتّقوا المفطِّرين: الغِيبة والكذب ".
ثمّ اسأل نفسك بعد ذلك: أين كلّ ذلك بجانب ترك الصّلاة ؟ فالله المستعان
الخطبة الثّانية:
فمن جزيل الأعمال الّتي على المسلم أن يحرص عليها هذا الشّهر:
3- الإكثار من تلاوة القرآن:
فهو شهر القرآن، قال تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: من الآية185] أي: ما شرعنا صيامَه إلاّ من أجل إنزال القرآن فيه، ويؤكّد ذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يعارض جبريل القرآن كلّ سنة مرّة في رمضان.
وعلى ذلك سار السّلف الصّالح، فكانوا يُكثرون من تلاوة القرآن في رمضان:
كان الزّهريّ رحمه الله يقول إذا دخل رمضان:" إنّما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطّعام ".
وكان الإمام مالك رحمه الله إذا دخل عليه رمضان ترك قراءة الحديث ومجالس التّعليم وأقبل على قراءة القرآن.
وكان قتادة يختم القرآن كلّ سبع ليال دائما، وفي رمضان يختمه كلّ ثلاث ليال.
4- الإكثار من الصّدقة:
روى البخاري ومسلم عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه قال:" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ عليه السّلام، فَلَرَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ".
وفتح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في رمضان سباقا لهذا الجود، فدلّنا على سبيل يمكنك من خلاله أن تصوم رمضانين في رمضان واحد!
فقد روى التّرمذي وغيره عن زيدِ بنِ خالدٍ الجهنِيِّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا )).
وكان كثير من السّلف يؤثر بفطوره وهو صائم، منهم عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وداود الطّائي، ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل، وكان ابن عمر رضي الله عنه لا يُفطر إلاّ مع اليتامى والمساكين، وإذا علم أنّ أهله قد ردّوهم لم يفطر معهم تلك اللّيلة.
وكان من السّلف كالحسن وابن المبارك من يدعو المحتاجين فيطعمهم وهو صائم ويجلس يخدمهم ويروّحهم.
وقال أبو السوّار العدويّ: كان رجال من بني عديّ يصلّون في المسجد ما أفطر الواحد منهم وحده قط، فإن وجد من يأكل معه، وإلاّ أخرج طعامه إلى المسجد فيأكله مع النّاس.
وعلى المسلم أن يتذكّر إخوانا لنا في الإسلام .. تذكّروا الأرامل والأيتام .. تذكّروا أحشاء ظامئة .. وبطونا جائعة .. فإنّ ما تشعر به من الجوع والعطش أيّاما، يشعر به هؤلاء أعواما ..
وتذكّروا أجسادا عارية ..تذكّروا أبا وأمّا لا يجدون ما يدخلون به السّرور على أطفالهم .. يكبّر للصّلاة ويأتيه طيف الحاجة .. هل من معين ؟ هل من مواسٍ للمعوِزين ؟
ويزداد ألمه، ويشتدّ سقمه إذا تذكّر أنّ من بخل عليه في رمضان، فإنّه لن ينظر إليه في غيره !
ألا فلتتحرّك أيدي الجود والسّخاء .. بالإنفاق والعطاء .. فكم من ساقٍ جرعةَ ماء لوجه ربّ الأرض والسّماء، وقاه الله شرّ يوم اللّقاء:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12)} [الإنسان]..
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَنَّ رَجُلًا رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ، حَتَّى أَرْوَاهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ )).
هذا سقى كلبا طريدا، فكيف بمن أطعم عبدا أسلم لله توحيدا وتمجيدا ؟!
5- قيام الّيل:
فقيام اللّيل من أعظم ما تقرّب به الصّالحون، وأشرف ما يبتغيه المؤمنون، فيكفي أنّه أفضل صلوات النّوافل؛ فقد روى مسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: (( أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ ))..
وهو من أعظم السّبل لشكر الله تعالى على نِعمه؛ فقد روى البخاري ومسلم عن المغيرةِ رضي الله عنه قال: قَامَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ ! فَقِيلَ لَهُ: قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ؟! قَالَ: (( أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ))..
فكيف إذا كان المسلم يؤدّي هذه العبادةَ في بيت الله أحسن البلاد .. مع جماعة المسلمين أحسن العباد .. في شهر من أفضل الشّهور وهو شهر الصّيام ؟! لا جرم أن قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )).
ونرى لزاما علينا أن نذكّر إخواننا وأخواتِنا أنّه ينبغي لمن أراد أن يُكتبَ له قيامُ ليلةٍ كاملةٍ أن يُكمل الصّلاة مع الإمام إلى الوتر، فقد روى التّرمذي والنّسائي عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: قال صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ قِيَامَ لَيْلَةٍ )).
6- العمرة:
ومن النّفحات الّتي يُدعى المسلم إلى أن يتعرّض لها: عمرةٌ في رمضان؛ فقد روى البخاري ومسلم عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه قال:
قال رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ: (( إِذَا كَانَ رَمَضَانُ اعْتَمِرِي فِيهِ، فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً مَعِي )).
فهنيئا لك أيّها المسلم بحجّة مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
7- الإكثار من الدّعاء والاستغفار:
يقول الله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
فابحث عن موقع هذه الآية من القرآن، تجدها بعد آية الصّيام، وذلك ليدلّنا المولى أنّ أيّام هذا الشّهر الكريم أيّام دعاء واستغفار، فإن غفلت عن الدّعاء فلا تغفلنّ عن وقت الإفطار والأسحار.
أمّا وقت الإفطار فلقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ دَعْوَةً لاَ تُرَدُّ )).
وأمّا وقت الأسحار فلأنّ المولى أقرب ما يكون من عبده وقت السّحر، فينزل إلى السّماء الدّنيا فينادي: (( هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ ؟)).
الوصيّة الثّالثة: احذر قطّاع الطّريق.
أرى لزاما عليّ أن أذكّرك - ونحن بين يدي شهر الخيرات وموسم الطّاعات - أنّ في البشر كثيرا من قطّاع الطّرق، يصدّون الخلق عن خالقهم، ويضلّونهم عن سبيل رشادهم وهدايتهم.
يمكنك أن تشبّههم بأيّ شيء: شبّههم بأنّهم خلفاء للّذين صفِّدوا من الشّياطين، إلاّ أنّ هؤلاء من ماء وطين.
شبّههم بأصحاب الأخدود الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات عن صراط الرّحيم الودود.
لا نزال نراهم في الصّحف والمجلاّت .. في الشّوارع والطّرقات .. في الإذاعات والشّاشات .. يعِدُون ويبشّرون، ويدعون النّاس إلى قضاء أتعس الأوقات، والتنجّس بمتابعة السّهرات والحفلات .. والعجيب أن تنطلي هذه الإغراءات على أغلب الفئات ..
عباد الله .. إنّنا لسنا أمّة تحرّكها النّكت والتّسلية .. وتخسر سبل الجنّة لأجل الضّحك والسّخرية .. حياتنا أغلى بكثير من أن نتركها بأيدي الحمقى والمهرّجين.
يعرض عليهم ربّهم أعظم سلعة وبضاعة، ويدعوهم إلى اغتنام سبل الشفاعة .. يعرض عليهم العمل في شهر لا كالشّهور، الذّنب فيه مغفور .. ولكنّهم آثروا سلعة غيره، وحرموا أنفسهم من خيره .. استبدلوا سبل الفلاح والمفاز .. باللهو واللّغو في التّلفاز .. استبدلوا سبل الخيرات بالقنوات والمقعّرات ..
إنّهم استجابوا لمن قال تعالى فيهم:{أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: من الآية221].
أخي الكريم .. هذه وصايا أسأل الله أن تصل إلى قلبك، فمدّ يديك إلى ربّك .. وتب إليه واستغفر لذنبك ..
يا زارع الـخير تحصـد بعده ثـمرا *** يا زارع الشّر موقوف على الوهن
يا نفس ويحك تـوبي واعملي حسـنا *** عسى تجازين بعد الموت بالحسـن