وذكّرهم بأنّ هذه العبادةَ قد كُتِبت على أمم قبلهم؛ ليعلموا أنّها في مقدورِهم ووُسعهم، وإنّ النّفوس جُبِلت على الاستئناس بمن سار على الطّريق قبلهم.
ثمّ قال عزّ وجلّ:{أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}، فقلّل عددها، حتّى يخفّ على النّفوس وقعها، ومن استطال الطّريق ثقُل حمله، وبَطُؤ سيره.
وكان فرض الصّيام في أوّل أمره له جانبان: أحدهما فيه عُسرٌ، والثّاني فيه يسرٌ:
أ) الجانب الّذي كان فيه عُسر: هو كيفيّة الصّوم.
فقد كان الصّيام من قبل هو الإمساك عن شهوتَي البطن والفرْج من بزوغ الفجر إلى غروب الشّمس، إلاّ أنّه يحِلّ لهم الأكل والاستمتاع بالنّساء ما لم يَنَاموا، فإذا نام بعد الغروب ثمّ استيقظ لم يحلّ له شيء من ذلك، ولزِمَه الإمساك إلى غروب شمس اليوم التّالي.
روى الطّبريّ عن السدّي رحمه الله قال: كُتب على النصارى رَمَضان، وكُتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يَشربوا بَعد النّوم، ولا ينكحوا النّساء شهر رمضان، فكتب على المؤمنين كما كُتب عليهم...
وقال إبراهيم التّيميّ رحمه الله: كان المسلمون في أوّل الإسلام يفعلون كما يفعل أهل الكتاب: إذا نام أحدُهم لم يطْعَم حتّى القابلة.
ويؤيّد هذا ما رواه مسلم عن عمْرِو بنِ العاصِ رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَكْلَةُ السَّحَرِ )).
ففتح الله سبحانه على هذه الأمّة باب التّيسير، وخفّف عنهم، وإذا أراد الله شيئا هيّأ له أسبابه، ومن المِحن تأتِي المنح:
فقد روى البخاري ومسلم عن البراءِ رضي الله عنه قال:
كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وسلّم إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا، فَحَضَرَ الْإِفْطَارُ، فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ، لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ.
وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ !
فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ، غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}، فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}.
ب) الجانب الّذي كان فيه يُسر: وهو يتعلّق بالمكلّف بالصِّيام.
فقد مرّت فريضة الصّيام بمرحلتين اثنتين:
المرحلة الأولى: كان الصّوم في أوّل الأمر على التّخيير: إمّا أن يصُوم، وإمّا أن يُفطِر ويُطْعِم مكان كلّ يومٍ مسكينا.
وكان أكثر من في المدينة يصوم:
إمّا امتثالا لقوله تعالى:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
وإمّا لفقره، فلا يقدِر على إخراج الفدية.
قال تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
روى البخاري عن سَلَمَةَ بنِ الأكْوعِ رضي الله عنه قال: لَمَّا نَزَلَتْ:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ، حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا.
وعلى قوله رضي الله عنه، فإنّ فمعنى ( يطيقونه ) على ظاهرها، بمعنى: من قدر على الصّيام ولم يصُم فعليه فدية.
ولم يَدُم ذلك إلاّ أيّاماً، وجاءت:
المرحلة الثّانية: فلمّا اعتادَت نفوسهم على الصّيام، تغيّر الحكم، ففرض الله الصّوم من غير تخيير للمُطِيق.
قال عزّ وجلّ:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، وبقي تحت التّخيير الّذين لا يُطيقون صيامه، أو يُطيقونه مع شدّة وضرر.
روى البخاري عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أنّه كان يقرأ:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فَلَا يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، قال رضي الله عنه: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.
فعلى قوله رضي الله عنه يكون معنى ( يطيقونه ) أي: يشقّ عليهم.
قال ابن القيّم رحمه الله في " مفتاح دار السّعادة " (2/377) في بيان الحكمة من هذا التدرّج في التّشريع:
" لمّا كان - أي: الصّوم - غيرَ مألوفٍ لهم، ولا معتادٍ، والطِّباعُ تأباه؛ إذ هو هجرُ مألوفِها ومحبوبِها، ولم تذقْ بعدُ حلاوتَه وعواقبَه المحمودةَ، وما في طيِّه من المصالح والمنافع، فخُيِّرت بينه وبين الإطعام، وندبت إليه، فلمّا عرَفَت علّته وألِفَتْه، وعرفت ما تضمّنه من المصالح والفوائد، حُتِم عليها عيناً، ولم يقبل منها سواه، فكان التّخيير في وقته مصلحةً، وتعيينُ الصّوم في وقته مصلحة، فاقتضت الحكمة البالغة شرعَ كلِّ حكمٍ في وقته؛ لأنّ المصلحة فيه في ذلك الوقت "اهـ.
وقال رحمه الله أيضا في " زاد المعاد " (2/31):
" وكان للصّوم رتبٌ ثلاث:
إحداها: إيجابُه بوصفِ التّخيير.
والثّانية: تحتّمه، لكن كان الصّائم إذا نام قبلَ أن يُطعِم حرم عليه الطّعام والشّراب إلى اللّيلة القابلة، فنُسِخ ذلك بـ:
الرّتبة الثّالثة: وهي الّتي استقرّ عليها الشّرع إلى يوم القيامة "اهـ.
والله الموفّق لا ربّ سواه.