وهو مذهب الحنفيّة، والحنابلة كما في " كشّاف القناع " (2/155).
واستدلّوا على ذلك بـ:
1- علّة الحكم، فقالوا: إنّ الشّهوة مأمونة من كلا الطّرفين.
2- وبحديث أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ( كان يصافح العجائز ).
• القول الثّاني: تحريم مصافحتها ولمسها، وهو مذهب المالكيّة والشّافعيّة.
واستدلّوا بأدلّة، منها:
1- عموم النّصوص النّاهية عن لمس المرأة ومصافحتها، من ذلك:
أ) ما رواه النّسائيّ (( إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ )) [رواه النّسائيّ بسند صحيح].
ب) ما رواه الطّبرانيّ عن معقِلِ بنِ يسارٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةٍ لَا تَحِلُّ لَهُ )).
وهذا الحديث فيه ترهيب شديد من مسّ المرأة الأجنبيّة؛ قال المناويّ رحمه الله:" وإذا كان هذا في مجرّد المسّ الصّادق بما إذا كان بغير شهوة، فما بالك بما فوقه من القبلة "اهـ.
ج) ما جاء في الصّحيحين عن أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( واليَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا البَطشُ -وفي رواية-: اللَّمْسُ ))
2- أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تُوُفّي وما مسّت يده امرأة أجنبيّة قط ولو أثناء البيعة، وهو موطن أبعد ما يكون عن الشّبهة:
ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أَخْبَرَتْ عَنْ بَيْعَةِ النِّسَاءِ فَقَالَتْ: مَا مَسَّ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم بِيَدِهِ امْرَأَةً قَطُّ، إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا، فَإِذَا أَخَذَ عَلَيْهَا فَأَعْطَتْهُ قَالَ: (( اذْهَبِي فَقَدْ بَايَعْتُكِ )).
وفي صحيح البخاري قالت: فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنْهُنَّ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( قَدْ بَايَعْتُكِ )) كَلَامًا يُكَلِّمُهَا بِهِ، وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ فِي الْمُبَايَعَةِ، وَمَا بَايَعَهُنَّ إِلَّا بِقَوْلِهِ ".
وعند النّسائي عن أميمَةَ بنتِ رُقَيْقَةَ رضي الله عنها قالت: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم فِي نِسْوَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ نُبَايِعُهُ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! نُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا ... فَقَالَ: (( إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ، إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ )).
ووجه الدّلالة:
أ) أنّ من المبايعات من كانت مسنّة لا شكّ في ذلك.
ب) وهو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطهر النّاس قلبا، وأشدّ الخلق عفّةً، ومع ذلك نراه يقول: لا أصافح النّساء.
قال ابن عبد البرّ رحمه الله في " التّمهيد " (12/243): " في قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنِّي لاَ أُصَافِحُ النِّسَاءَ )) دليلٌ على أنَه لا يجوز لرجلٍ أن يباشر امرأةً لا تحلَ له، ولا يمسّها بيده، ولا يصافحها ".
ونصّ المالكية على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية وإن كانت متجالّة، كما ذكره أبو الحسن المالكيّ رحمه الله في " كفاية الطّالب الربّاني "(2/619)، والعدويّ في " حاشيته " عليه، والمتجالّة: هي العجوز الفانية الّتي لا إرب للرّجال فيها.
فالصّواب- والله أعلم - هو مذهب المالكيّة والشّافعيّة القائلين بالتّحريم مطلقا، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - كما عزاه إليه ابن مفلح في " الفروع ".
أمّا حديث أنّه كان صلّى الله عليه وسلّم ( يُصافح العجائز )، فهو يذكر عن أبي بكر رضي الله عنه، ومع ذلك قال الحافظ الزّيلعيّ عنه في " نصب الرّاية " (4/240): " غريب "، وقال الحافظ ابن حجر في " الدّراية " (2/225): " لم أجده ".
والله أعلم وأعزّ وأكرم.