ب) ثمّ هو مخالف تماما للنّصوص الّتي تبيح للمرأة الحائض ذكر الله تعالى بما فيه القرآن، من ذلك:
- ما رواه البخاري ومسلم عن عائشةَ أنّ النّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لَعَلَّكِ نُفِسْتِ ))-أي حِضْتِ- قُلْتُ: نَعَمْ ! قَالَ: (( فَإِنَّ ذَلِكِ شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي )).
فبيّن لها ما لا يفعله الحاجّ، وأطلق لها جواز فعل الباقي، ولا شكّ أنّ من أفعال الحاجّ ذكر الله وقراءة القرآن.
- ما رواه البخاري عن أمِّ عطيّةَ رضي الله عنها قالت: كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ حَتَّى نُخْرِجَ الْبِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا، حَتَّى نُخْرِجَ الْحُيَّضَ فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ، وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ، يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ.
- ثمّ إنّ الأصل الجواز، والمانع هو من يُطالب بالدّليل، لا المستمسك بالأصل.
ثانيا: أمّا مسّها للمصحف:
فالصّحيح: أنّه لا يجوز مسّ الحائض للمصحف ولا الجنب، وهو مذهب جمهور الفقهاء، بل ومذهب الصّحابة رضي الله عنهم.
وليس ذلك استدلالا بقوله تعالى:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)}، فإنّ المقصود من الكتاب هنا هو: اللّوح المحفوظ [وقد بيّنّا ذلك في: الأدب مع كلام الله من " الآداب الشّرعيّة "].
ولكنّ الدّليل على ذلك هو: ما رواه الدّارقطني عن عمرو بن حزم رضي الله عنه، والطّبراني والحاكم عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لاَ يَمَسَّ القُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ )).
[صحّحه الحاكم، ووافقه الذّهبي والألباني في " الإرواء" (1/158)].
أمّا من فسّر لفظ ( طاهر ) في الحديث، بأنّه ( المؤمن )، فبعيد، لأسباب ثلاثة:
الأوّل: أنّه مخالف لظاهر اللّفظ، والأخذ بالظّاهر هو الأصل، إلاّ لدليل.
الثّاني: أنّ الطّهارة معناها الشّرعيّ هو رفع الحدث الأصغر والأكبر، وإطلاقها على الإيمان مجاز شرعيّ، وإذا دار الكلام بين الحقيقة الشّرعيّة والمجاز وجب الأخذ بالحقيقة الشّرعيّة.
الثّالث: أنّ هذا الفهم مخالف لفهم الصّحابة رضي الله عنهم، فقد قال إسحاق المروزي في " مسائل الإمام أحمد " (ص5):" قلت - يعني للإمام أحمد-: هل يقرأ الرّجل على غير وضوء ؟ قال: نعم، ولكن لا يقرأ في المصحف ما لم يتوضّأ.
قال إسحاق: وهو كما قال، لما صحّ من قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( لاَ يَمَسَّ القُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ ))، وكذلك فعل أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والتّابعون "اهـ.
يقصد بعمل الصّحابة ما رواه الإمام مالك، وعنه البيهقيّ بسند صحيح عن مصعبِ بنِ سعْدِ بن أبي وقّاصٍ رضي الله عنه أنّه قال:
كُنْتُ أُمْسِكُ الْمُصْحَفَ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، فَاحْتَكَكْتُ، فَقَالَ سَعْدٌ: لَعَلَّكَ مَسِسْتَ ذَكَرَكَ ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: قُمْ فَتَوَضَّأْ. فَقُمْتُ فَتَوَضَّأْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ. [صحّحه الألباني في "الإرواء" (1/161) ].
لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - كما في " مجموع الفتاوى "(21/288)، و" الفتاوى الكبرى " (1/56)-:
" وأمّا مسّ المصحف، فالصّحيح أنّه يجب له الوضوء كقول الجمهور، وهذا هو المعروف عن الصّحابة رضي الله عنهم: سعد، وسلمان، وابن عمر، وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( لاَ يَمَسَّ القُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ )).. " اهـ.
ثالثا: أمّا دخول الحائض للمسجد:
ففي المسألة أقوال متضاربة، وآراء متشعّبة، والصّواب إن شاء الله هو قول الظّاهريّة: إباحة مكوث الحائض والنّفساء في المسجد مطلقا ["المحلّى" (2/184-187)، "المجموع" للنّووي (1/173)].
وذلك للأدلّة الآتية:
1) الدّليل الأوّل: الأصل هو الإباحة.
وما عارض الأصلَ فهو إمّا:
- صريح، غير صحيح: كحديث جسرة بنت دجاجة (( إِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ )) فهي مجهولة، وقال البخاري عنها: عندها عجائب !
- أو صحيح غير صريح: كما سيأتي بيانه.
2) الدّليل الثّاني: إذنه صلّى الله عليه وسلّم للمرأة السّوداء أن تبيت بالمسجد، مع احتمال كونها حائض.
3) الدّليل الثّالث: قوله لعائشة: (( اِفْعلي ما يفعل الحاج غير ألاّ تطوفي بالبيت ولا تصلّي )). فبيّن صلّى الله عليه وسلّم لها ما يحرم عليها، وما سكت عنه فهو عفو.
* ( فصل ) في بيان ما استدلّ به المانعون هو صحيح، لكنّه غير صريح:
1- أمره صلّى الله عليه وسلّم الحُيّض باعتزال المصلّى يوم العيد:
فاعلم أنّ ذلك لا يدلّ على منعهنّ من دخول المسجد؛ وقد ذكر العلماء له حكمتين:
الأولى: ما ذكره الحافظ عن ابن المنيّر رحمه الله أنّ في وقوفهنّ وهنّ لا يُصلّين مع المصلّيات استهانة بحال الصّلاة.
الثّانية - وهي أقرب -: أنّ الأمر باجتناب المصلّى جاء لدفع ما يمكن أن يوهم أنّ الصّلاة نفسها واجبة عليهنّ، فإنّهنّ إذا سمِعن الأمر بالخروج إلى المصلّى يوم العيد قد يفهمن أنّ لها حالةً خاصّة.
2- قوله صلّى الله عليه وسلّم لعائشة رضي الله عنها: ( ناوليني الخُمرة من المسجد ):
فقد اختلف العلماء في شرحه اختلافا كبيرا من جهتين اثنين:
الأولى: تعلّق " مِن ":
فمنهم من علّقها بالفعل (قال) كالقاضي عياض، وهو ضعيف.
وجمهور الأئمّة على أنّه متعلّق بالفعل (ناوليني)، فعلى هذا لها أن تُدخل يدها للمسجد.
الثّانية: معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ حَيْضَتَكَ لَيْسَتْ بِيَدِكِ )):
فمنهم من حمل لفظ اليد على الحقيقة، أي: أنّ اليد ليست هي مكان الحيض.
ومنهم من قال: ليس في مقدورك دفع الحيض.
ويؤيّد الأوّل كون الأصل في الكلام الحقيقة.
ويؤيّد الثّاني ما رواه النّسائي وغيره بسند حسن عن ميمونة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضع رأسه في حجر إحدانا، فيتلو القرآن وهي حائض، وتقوم إحدانا بخُمرته إلى المسجد فتبسطها وهي حائض ".
الشّاهد أنّ هذا لا يدلّ إطلاقا على تحريم دخول الحائض إلى المسجد.
والله أعلم وأعزّ وأكرم.