والفرق بين المثل والشبَه دقيق، وهو أنّ المثل يكون من جميع الوجوه، بخلاف الشّبه، فهو في بعض الوجوه فحسب.
وتعريف الأمثال المضروبة للنّاس:" تشبيه شيء بشيء في حكمه، وتقريب المعقول من المحسوس، أو أحد المحسوسين من الآخر، واعتبار أحدهما بالآخر " ["الأمثال في القرآن " لابن القيّم رحمه الله].
وقد قال الإمام الماوردي رحمه الله – وهو أوّل من صنف في " الأمثال " – :" علم الأمثال من أجلّ علوم القرآن والنّاس في غفلة عنه ".
وقال الشّيخ طاهر بن عاشور رحمه الله في بيان قيمة الأمثال:" والتّمثيل مَنْزَع جليلٌ بديع من منازع البلغاء، لا يبلغ إلى محاسنه غير خاصّتهم ".
قال ابن كثير رحمه الله (1/208):" قال بعض السلف: إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول: {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ}".
- المثل النّاري والمثل المائي:
لقد ضرب الله عزّ وجلّ في هذه الآيات مثلين للمنافقين:
1) أحدهما ناريّ، وهو قوله تعالى:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً ...} الآية.
2) والآخر مائيّ، وهو قوله تعالى:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ...} الآية.
يبيّن عزّ وجلّ من خلالهما حالة المنافقين مع الوحي، واختار النّار والماء لأنّ النّار فيها نور، والماء مادّة الحياة، كذلك الوحي نور وحياة، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشّورى من:52].
ونظير هذين المثلين ما جاء في سورة الرّعد في حقّ المؤمنين، حيث ضرب الله لأهل الإيمان مثلين أيضا:
1) أحدهما مائيّ، وهو قوله عزّ وجلّ:{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً}: فشبّه الوحي الّذي أنزله لحياة القلوب بالماء لحياة الأرض، والقلوب كالأودية الّتي تمسك الماء:{فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}:
فهناك القلب الكبير الّذي يسع العلم الكثير، كالوادي الكبير يسع الماء الكثير.
وهناك القلب الصّغير يسع حسَب قدره وسعته.
وإنّ من طبيعة السّيل إذا خالط الأرض حمل معه غثاءً وزَبَداً، ثمّ يزِيل هذا الغثاء والزّبد بعيدا، ويستقرّ في الوادي الماءُ الصّافي الّذي يَسقِي منه النّاس ويزرعون ويسقون أنعامهم، فكذلك العلم إذا خالط القلوب، أثار ما فيها من الشّهوات والشّبهات ليقلعها ويذهبها.
2) والآخر ناريّ، وهو قوله تعالى:{وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ}.
أي: إذا وُضِع الذّهب والفضّة والنّحاس والحديد على النّار، تُخرِجُ النّارُ خبث هذه المعادن، وتميّزه عن الجوهر النّافع، فيُرمى ويطرح، ويستقرّ المعدن الخالص الصّافي الّذي ينتفع به صاحبه.فكذلك الشّهوات والشّبهات يلقيها قلبُ المؤمن ويطرحُها، كما تطرح النّار ذلك الخبث.
لذلك قال تعالى:{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}.
شرح المثل النّاري في آية البقرة:
عبارات السّلف رحمهم الله في شرح هذا المثل كثيرة، وكلّها متقاربة:
• فمثل هؤلاء المنافقين، كمثل قومٍ كانوا في ظُلمة، فأوقدوا نارًا وهم بأمسِّ الحاجة إليها، فأضاءت ما حولهم من أذًى فأبصروه حتّى عرفوا ما يَتّقون، فبينما هم كذلك إذ بنارهم قد انطفأت ! فأصبحوا لا يدرون ما يتّقون من أذًى. فكذلك المنافقون، كانوا في ظلمة الشّرك، فجاءهم الوحي وهم في أمسّ الحاجة إليه، فأسلموا، فعرفوا الحلال من الحرام، والخير من الشرّ، فبينما هم كذلك إذ كفروا وارتدّوا، فصاروا لا يعرفون الحلال من الحرام، ولا الخير من الشرّ، فأصبحوا في حيرة وضلال.
وبهذا المعنى قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، وهذا المعنى يؤيّد مذهب ابن كثير رحمه الله أنّ هؤلاء المنافقين قد أسلموا ثمّ كفروا، كما قال تعالى في حقّهم في سورة سمّيت باسمهم:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3].
• أمّا قتادة رحمه الله فيرى أنّهم ما آمنوا أصلا إلاّ ظاهرا، وأنّ حالهم في الظّلمة هذه إنّما هو عند الموت، روى الطّبريّ رحمه الله عنه أنّه قال:" إنّ المنافق تكلّم بلا إله إلا الله، فأضاءت له في الدّنيا، فناكَح بها المسلمين، وَغازَى بها المسلمين، ووارثَ بما المسلمين، وَحقن بها دَمه وماله، فلمّا كان عند الموت، سُلِبَها المنافق، لأنّه لم يكن لها أصل في قلبه، ولا حقيقة في علمه ".
• وقال مجاهد: أمّا إضاءة النّار: فإقبالهم إلى المؤمنين والهدَى، وذهابُ نورهم: إقبالهم إلى الكافرين والضّلالة ".
لطائف المثل:
1- معنى السّين والتّاء في (استوقد):
فقيل: بمعنى أوقد، والسّين والتّاء فيه للتّوكيد، كما هما في قوله تعالى:{فَاسْتجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} أي: أجاب، وقولهم: استبان الأمر، أي: بان.
وقيل: هي على أصلها، فالسّين والتّاء للطّلب، والمعنى أنّه ليس له نار اكتسبها من قِبَل نفسه، وإنّما استعارها من غيره.
2- في الآية التفات:
فقد بدأ الله عز وجل المثل بجمع ضمير (مَثَلُهُمْ)، ثمّ أفرد في (اسْتَوْقَدَ)، و(حَوْلَهُ)، ثمّ عاد إلى جمع الضّمير (بِنُورِهِمْ) وفي (تَرَكَهُمْ)، ويسمّى هذا في البلاغة بالالتفات، والنّكتة في ذلك: أنّ المنافقين لمّا كانوا على الإيمان كانوا على قلب رجل واحد، فناسب أن يفرد الضّمير فقال: (استوقد) و(حوله)، ولمّا ذهب الله بهذا الإيمان تفرّقوا فناسب أن يجمع الضّمير في (بنورهم) و(تركهم).
3- الفرق بين النّور والنّار: قال تعالى:{ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ}، ولم يقل بنـارهم، لأنّ النّار فيها إشراق وإحراق، فذهب الله بما فيها من الإشراق وهو (النّور) وأبقى ما فيها من الإحراق وهو (الحرّ والأذى).
4- حرمانهم من معيّة الله: قال تعالى:{ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ}، ولم يقل: ذهب نورُهم، أو: أذهب الله نورَهم؛ إشارة إلى أنّهم حُرِموا معيّة الله تعالى، فهو ليس معهم.
5- سرّ جمع الظّلمات وإفراد النّور: قال تعالى:{وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ}.
(ظُلُمَاتٍ) أي: من الشكّ، والكفر، والنّفاق ( لاَ يُبْصِرُونَ ): أي: لا يهتدون إلى سبيل الخير.
وفي جمع الظّلمات وإفراد النّور قولان:
أ) أحدهما: أنّ الحقّ لا يتعدّد، وسبل الباطل لا تنحصر، كقوله تعالى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَات} [البقرة: من الآية257]، وقوله جلّ جلاله:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: من الآية153].
ب) الثّاني: أنّ النّور أشرف من الظّلام، والعرب تُفرِد الشّريف، وتجمع ما دونه، قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل:48] فأفرد اليمين وجمع الشّمال، لشرف اليمين.
ومنه قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب: من الآية50] فأفرد الذّكور وجمع الإناث، جريا على سنّة الله تعالى:{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: من الآية228].
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)}.
-( صُمٌّ ): عن سماع الخير ( بُكْمٌ ): عن النّطق به ( عُميٌ ): عن رؤيته.
-( فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ): لأنّهم تركوا الحق بعد أن عرفوه، وأنّى لهم أن يرجعوا وقد عُدِموا جميع حواس العلم والشّعور، بل جرت العادة أنّ الظّلمة الحاصلة بعد النّور تكون أشدّ من الظّلمة الأصليّة.
أمّا المثل المائيّ فسوف نشرحه لاحقا إن شاء الله تعالى.