ونترك عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يروي لنا قصّة إسلامه كما في " مسند أحمد " و" سيرة ابن هشام ".
والرّواية الّتي سنذكرها تقضي على ما انتشر عند النّاس أنّ عمر رضي الله عنه أسلم بسبب قراءته لشيء من القرآن الكريم، وأنّ أخته فاطمة طلبت منه الوضوء، الخ ... فتلك الرّواية فيها:
1- متروك، وهو: يزيد بن ربيعة الرّحبي.
2- وضعيف، هو: إسحاق بن إبراهيم الحنيني.
قال عمر رضي الله عنه: كنت للإسلام مُباعداً، وكنت صاحبَ خمر في الجاهليّة، أحبّها وأُسَرّ بها، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجالٌ من قريش بالحزورة[1].
قال: فخرجت ليلةً أريد جُلسائي أولئك في مجلسهم ذلك، فجئتهم فلم أجد فيه منهم أحدا، فقلت: لو أنّي جئت فلانا الخمّار - وكان بمكّة يبيع الخمر - لعلّي أجد عنده خمرا فأشربَ منها !
قال: فخرجت، فجئته فلم أجده، فقلت: فلو أنّي جئت الكعبة فطُفت بها سبعا.
قال: فجئت المسجدَ أريد أن أطوف بالكعبة، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم يصلّي، وكان إذا صلّى استقبل الشّام وجعل الكعبة بينه وبين الشّام، وكان مصلاّه بين الرّكنين: الرّكن الأسود والرّكن اليمانيّ.
فقلت حين أتيته: والله لو أنّي استمعت لمحمّد اللّيلة حتّى أسمع ما يقول ! لئن دنوتُ منه أستمع منه لأروِّعنَّه.
فجئت من قِبَلِ الحجر، فدخلت تحت ثيابها، فجعلت أمشي رويدا - ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم يصلّي يقرأ القرآن - حتّى قمت في قِبلته مستقبِلَه ما بيني وبينه إلاّ ثياب الكعبة.
قال: فلمّا سمعت القرآن رقّ له قلبي، فبكيت، ودخلني الإسلام.
فلم أزل قائما في مكاني ذلك، حتّى قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاته، ثمّ انصرف.
وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبي حسين، وكانت طريقَه حتّى يجزع[2] المسعى، ثمّ يسلك بين دار العبّاس بن عبد المطّلب وبين دار ابن أزهر بن عبد عوف الزّهري، ثمّ على دار الأخنس بن شريق، حتّى يدخل بيته، وكان مسكنه الدّار الرّقطاء[3]...
قال عمر رضي الله عنه: فتبعته، حتّى إذا دخل بين دار عبّاس ودار ابن أزهر أدركتُه، فلمّا سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسِّي عرفني، فظنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّي إنّما تبعته لأُوذيَه، فنهمني، ثمّ قال:
(( مَا جَاءَ بِكَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ )).
قال: قلت: لأومن بالله وبرسوله، وبما جاء به من عند الله.
قال: فحمد اللهَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ قال: (( قَدْ هَدَاكَ اللهُ يَا عُمَرُ )) ثمّ مسح صدري، ودعا لي بالثّبات، ثمّ انصرفت عن رسول الله ودخل رسول الله بيتَه.اهـ
ها هو الرّجل الّذي كان سوطُه أشدّ السّياط على أهل الإسلام ينقلب في جنح اللّيل إلى سيف من سيوف الإسلام، وإلى درع يحتمي به أهل الإيمان ..
ولم ينتظر رضي الله عنه أن تزحف الأخبار إلى بيوت مكّة بخبر إسلامه .. بل ذهب ليُعلِن خلاصه من الشّرك كما تتخلّص الأشجار من أوراق الخريف الصّفراء ..
قال ابن اسحاق رحمه الله: وحدّثني نافع مولى عبد الله بن عمر، عن ابن عمر رضي الله عنه قال:
لمّا أسلم أبي عمر رضي الله عنه قال: أيّ قريش أنقل للحديث ؟ فقيل له: جميل بن معمر الجُمَحي.
قال: فغدا عليه، فغدوت أتبع أثره، وأنظر ما يفعل ؟ وأنا غلام أعقِل كلَّ ما رأيت حتَّى جاءه.
فقال له: أعلمت - يا جميل - أنّي قد أسلمت ودخلت في دين محمّد ؟
قال ابن عمر: فوالله ما راجعه حتّى قام يجرّ رداءه، واتّبعه عمر، واتّبعت أبي حتّى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته:
" يا معشر قريش !- وهم في أنديتهم حول الكعبة - ألا إنّ عمر بن الخطّاب قد صبأ !
قال عمرُ من خلفه: كذب، ولكنّي قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّدا عبدُه ورسولُه.
فثاروا إليه، فما برِح يقاتلهم ويقاتلونه [أي: يضربهم ويضربونه] حتّى قامت الشّمس على رءوسهم، وطَلَحَ[4] فقعد، وقاموا على رأسه.
قال: فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حُلّة حبرة[5] وقميص موَشَّى حتّى وقف عليهم فقال:
ما شأنكم ؟
قالوا: صبأ عمر.
فقال: فَمَهْ ؟ [أي: فماذا إذن ؟] رجلٌ اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون ؟ أترون بني عديّ بن كعب يُسلِمون لكم صاحبكم هكذا ؟ خلّوا عن الرّجل.
قال: فو الله لكأنّما كانوا ثوبا كُشِطَ[6] عنه.
قال: فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبت ! من الرّجل الذي زجر القوم عنك بمكّة يوم أسلمت وهم يقاتلونك ؟ فقال: ذاك أيْ بُنَيَّ العاص بن وائل السّهمي.
وظاهر الرّواية أنّهم أرادوا الفتك به لتوّه، ولكنّ الصّحيح أنّه عاد إلى داره، فأرادوا قتله، روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ:
بَيْنَمَا هُوَ فِي الدَّارِ خَائِفًا، إِذْ جَاءَهُ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، عَلَيْهِ حُلَّةُ حِبَرَةٍ، وَقَمِيصٌ مَكْفُوفٌ بِحَرِيرٍ - وَهُوَ مِنْ بَنِي سَهْمٍ وَهُمْ حُلَفَاؤُنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ - فَقَالَ لَهُ: مَا بَالُكَ ؟
قَالَ: زَعَمَ قَوْمُكَ أَنَّهُمْ سَيَقْتُلُونِي إِنْ أَسْلَمْتُ. قَالَ: لَا سَبِيلَ علَيْكَ.
قَالَ عمر: بَعْدَ أَنْ قَالَهَا أَمِنْتُ. فَخَرَجَ الْعَاصِ فَلَقِيَ النَّاسَ قَدْ سَالَ بِهِمْ الْوَادِي، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ ؟ فَقَالُوا: نُرِيدُ هَذَا ابْنَ الْخَطَّابِ الَّذِي صَبَا. قَالَ: لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ.فَكَرَّ النَّاسُ.
وهنا، لم يُطق الكفار صبرا ! فها هم يفقدون ساداتهم مع الأيّام ...
بالأمس فقدوا حمزة، واليوم يفقدون عمر رضي الله عنه !
وها هم الضّعفاء يقتربون من الكعبة يطوفون بها، بل ويصلّون عندها، ووجدوا ساحة آمنة يركعون فيها ويسجدون فيها..
روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: ( مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ رضي الله عنه )، وقال: ( والله ما استطعنا أن نصلّي عند الكعبة ظاهرين حتّى أسلم عمر رضي الله عنه ).
وهنا انتشر في الحبشة خبر إسلام عمر رضي الله عنه .. بل انتشر بها خبر إسلام المشركين !
قال ابن اسحاق: وبلغ أصحابَ رسول الله الّذين خرجوا إلى أرض الحبشة إسلامُ أهل مكّة، فأقبلوا لما بلغهم من ذلك، حتّى إذا دنوا من مكّة بلغهم أنّ ما كانوا تحدّثوا به من إسلام أهل مكّة كان باطلا، فلم يدخل منهم أحد إلاّ بجوار، أو مستخفيا.
فكان ممّن قدم مكّة:
منهم من أقام بها، حتّى هاجر إلى المدينة فشهد بدرا.
ومنهم مَن حُبس عن الهجرة حتّى فاتته بدر.
وكان منهم من مات بمكّة.
ولكن ما موقف المشركين بعد ذلك ؟ هذا ما سنراه لاحقا إن شاء الله تعالى.
[1] الحزورة: على وزن القسورة، موضع بمكة، بمعنى التلّ الصّغير، سمّيت بذلك لأنّه كان هناك تلّ صغير.
[2] جزع المسعى أي: قطعه عرضا.
[3] سمّيت بذلك لأنّها بُنِيت بالآجر الأحمر والجصّ الأبيض، فكانت رقطاء.
[4] أي: تعب.
[5] حبرة: ثوب من قطن أو كتّان كان يُصنع باليمن.
[6] كشط: بمعنى نُزع، ومنه قوله تعالى:{وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} والكَشْطُ: قلع عن شدّة التزاق، فالسّماء تكشط كما يكشط الجلد عن البعير، ولا يُقال: سلخته لأنّ العرب لا تقول في البعير إلاّ كشطته.