"اجتمعت قريش يوما، [وذلك حين أسلم حمزة، ورأوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يزيدون ويكثرون][1]، فقال أبو جهل لعنه الله والملأ من قريش:
التبس علينا أمر محمّد ! فلو ابتغيتم رجلا يعلم السّحر والكهانة والشّعر، فأتاه فكلّمه ثمّ أتانا ببيان من أمره.
فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت السّحر والكهانة والشّعر، وعلمت من ذلك علماً، وما يخفى عليّ إن كان كذلك.
فأتاه، فلمّا خرج إليه قال له عتبة ابن ربيعة: والله لقد سمعت السّحر والكهانة والشّعر وعلمت من ذلك علما، أنت يا محمّد خيرٌ أم هاشم ؟ أنت خير أم عبد المطّلب ؟ أنت خير أم عبد الله ؟ فبم تشتم آلهتنا وتضلّل آباءنا ؟! فإن كان بك الرّياسة عقدنا لك ألويتنا، وكنت رأسا ما بقيت، وإن كان بك الباءة زوّجناك عشر نسوة تختارها من أيّ بنات قريش شئت، وإن كان المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك بعدك، [وإن كان هذا الذّي يأتيك رِئيا تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك، طلبنا لك الطبّ، وبذلنا فيه أموالنا حتّى نُبرئك منه] - ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم - لا يتكلّم.
فلمّا فرغ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( لَقَدْ فَرَغت يا أبا الوليد ؟ )) قال: نعم.
قال: (( فَاسْمَعْ مِنِّي )). قال عُتبة: افعل.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
(({بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} [فصّلت]...))
فأمسك عتبة على فيه، يعني على فِي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وناشده بالرّحم أن يكفّ ! ورجع إلى أهله، فلم يخرج إلى قريش، واحتبس عنهم.
فقال أبو جهل: يا معشر قريش، والله ما نرى عتبة إلاّ صبأ وأعجبه طعامه - يعني طعام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم -، وما ذاك إلاّ من حاجة أصابته ! انطلِقوا بنا إليه.
فأتوه، فكلّموه، فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما حبسك عنّا إلاّ أنّك قد صبوت إلى محمّد، وأعجبك أمره ! فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعامه !
فغضب عُتبة، وأقسم أن لا يكلّم محمّدا أبدا، وقال: قد علمتم أنّي أكثر قريش مالا، ولكن أتيته فقصصت عليه القصّة، فأجابني – والله – بشيء ما هو شعر، ولا سحر، ولا كهانة، ثمّ قرأ: (( بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرّحمن الرّحيم .. إلى قوله :صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود )) فأمسكت على فيه، وناشدته بالرّحم أن يكفّ، وقد علمت أنّ محمّدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت، [فوالله ليكوننّ لقوله الّذي سمعتموه نبأ عظيم، فإن تُصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعِزّه عزّكم، وكنتم أسعد النّاس به.
قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. قال: هذا رأي: فاصنعوا ما بدا لكم].
فمن هذه الحادثة نرى دعوة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قائمةً على مبادئ عظيمة، منها:
1- المبدأ الأوّل: ( لا تنازل )
كان صلّى الله عليه وسلّم بإمكانه أن يتنازل لمصلحة الدّعوة المزعومة، وليرفع نوعا من البلاء عن إخوانه، ويدخل في نادي المنكر، ومع الأيّام يصل بهم إلى المقصود والهدف المنشود..
وخاصّةً أنّه ليس من السّهل أن ينقاد له بهذه المفاوضات أمثال أبي جهل، وعقبة بن أبي معيط، وعتبة بن ربيعة وغيرهم..
ولكنّه صلّى الله عليه وسلّم كيف يتنازل والله تعالى خاطبه قائلا:{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً (75)} [الإسراء]..
قد يتنازل صلّى الله عليه وسلّم عن حقّه: يُؤْذَى فيصبر .. يسيل دمه فيمسحه ويحتسب .. يضعون النّجاسة عليه وهو ساجد لربّه ويكتفي بالدّعاء .. وكان الصّحابة يتهافتون عليه يبكون جراحهم، ويشكون أقراحهم، فيأمرهم بالصّبر..
هذا جانب الصّدق في دعوته .. يُضرب به المميّعون الّذين تنازلوا عن المبادئ ولا يزالون .. ثمّ لا الإسلام نصروا، ولا الدّعوة والحقّ نشروا !
وهذا العرض الّذي قدّمته له قريش كانت أوّل رشوة، وأيّ رشوة ؟ ملك وجاه، وشرف ورفاه، ومكانة عالية، وزعامة غالية، ممّا يعتبره كثير من المعاصرين الّذين يتنازلون عن بعض مبادئ العقيدة مكسبا سياسيّا..
ومثل هذا الموقف، قوله صلّى الله عليه وسلّم الّذي لا يزال يقرع الآذان، وينصبّ برداً وسلاما على الجَنان: (( أَتَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ ؟ )) قالوا: "نعم"، قال: (( مَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلَى أَنْ تُشْعِلُوا مِنْهَا شُعْلَةً ))[2].
[رواه البخاري في "التّاريخ الكبير" (7/51)، والبيهقيّ في "الدّلائل" (2/186)]
وهذا دأب الأنبياء والمرسلين عليهم السّلام والمصلحين، فقد ذكر لنا القرآن في كثير من المواطن أنّ الأنبياء قوبلوا بهذه العروض، فكان شعارهم:{وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [هود: من الآية29]..
وهذه بلقيس أرادت أن تُلجم سليمان عليه السّلام بهديّة، قال تعالى:{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)} [النّمل]..
2- المبدأ الثّاني: ( لا تحايل ).
فقد كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قمّة الوسطيّة التي جاء بها الإسلام: ( لا تنازل، ولا تحايل ).
إنّه لم يتنازل لأنّه صادق .. ولم يتحايل لأنّه أمين .. وهو الصّادق الأمين صلّى الله عليه وسلّم.
فانظر إلى جانب الأمانة في دعوته، ليُضرب به المنفّرون .. فقد كان بإمكانه صلّى الله عليه وسلّم أن يحتال عليهم: فسياطهم على ظهره، وأموالهم ودائع محفوظة عنده .. ومع ذلك لم يخُن أحداً منهم !
ثمّ هاهم اليوم يعرضون عليه الملك ! فكان قادرا على أن يتربّع على العرش أيّاما، حتّى إذا أعدّ جيشا، أغار عليهم ..
ولكنّه صلّى الله عليه وسلّم الأمين، الذي علّم البشريّة جمعاء قائلا: (( أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ))..
فلن يخون مسلما ولا كافرا ولا مشركا مهما كانت الأسباب، فالدّعوة عقيدة إمّا أن تكون خالصة لله أو تكون من حظّ الشّيطان..
هذا هو الفرق بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن شوّهوا الإسلام فأعاقوه أكثر ممّا أعاقه أعداؤه ..
[يتبع]