" لما ضاقت مكّة وأوذي أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وفُتِنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء، وأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله في منعة من قومه ومن عمّه، قال:
(( إِنَّ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ مَلِكاً لاَ يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، فاَلْحَقُوا بِبِلاَدِهِ، يَجْعَلْ اللهُ لَكُمْ فَرَجاً وَمَخْرَجاً مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ )).
قالت: فخرجنا أرْسالاً، حتّى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، آمنين على ديننا، ولم نخشَ فيها ظلما.
وكان أوّل من خرج من المسلمين عثمان بن عفّان معه امرأته رُقيّة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة معه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو، والزّبير بن العوّام، ومصعب بن عمير، وعبد الرّحمن بن عوف، وأبو سلمة ومعه امرأته أمّ سلمة بنت أبي أميّة، وعامر بن ربيعة وغيرهم.
ثمّ خرج جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه معه امرأته أسماء بنت عميس، وتتابع المسلمون، حتىّ اجتمعوا بأرض الحبشة فكانوا بها: منهم من خرج بأهله معه، ومنهم من خرج بنفسه لا أهل له.
ثمّ لحق بهم عبد الله بن مسعود، والمقداد بن الأسود، وسهيل بن بيضاء، وغيرهم كثير .. حتّى بلغ مجموعهم ثلاثةً وثمانين نفرا ..
وهاهي أرض الحبشة تجود مرّة أخرى على المسلمين بعدما جادت ببلال رضي الله عنه .. وهاهي شلاّلاتها تغسل دموع المؤمنين، وتُطهّر جراحاتهم ..
ولم الحبشة ؟..
اختار الله للمسلمين تلكم الأرضَ لأنّ جزيرة العرب صارت غابة من الأصنام، وأرض فارس تتأجّج نارا تُحرق أهلها ..
والسّبب الوحيد أنّ بها ملِكاً لا يُظلم عنده أحد .. إنّه العدل الذي خلت منه صدور وقلوب أهل مكّة ..
وابتسم المتسلّطون وهم يرَوْن الفقراء يحملون أطفالهم، ويودّعون بلادهم .. يتركون ديارهم، ويودّعون إخوانهم، بل يودّعون نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم ..
فرح الطّغاة والبغاة إلاّ واحدا ..
شخصٌ واحدٌ كان يرقُبُ المشهد بِعمق .. كان واقفا قد ألجمه الحزن، وأغرقه النّدم، ينظر إلى ضحاياه، ويتأمّل مطاياهم وهي تتمايل مغادِرَةً مكّة .. فانتزعت من قلبه بعض قسوته ..
ووقف يخاطب نفسه:
ماذا فعلت يا ابن الخطّاب ؟ وماذا جنت يداك ؟.. ويحك يا عمر ! إنّهم أهلك وجيرانك، وأصحابك ! ألا يلين قلبك لهذا المنظر ؟!.. نساء حزانى .. وشباب حيارى .. وأطفال لا ذنب لهم ..
إلى أين ألقيت بهم يا عمر ؟! إلى بحر يتقلّب بهم ؟ أم إلى أرض لا يعرفون بها أحدا ؟ ماذا سيكون مصيرهم ؟ أنت لا تعرف .. وهم لا يعرفون ..
وتراه يتقدّم .. وتحرّك قلبه .. في مشهد يرويه لنا ابن إسحاق عن أمّ عبد الله زوج عامر بن ربيعة قالت:
" والله إنّا لنترحّل إلى أرض الحبشة، إذ أقبل عمر بن الخطّاب، حتّى وقف عليّ وهو على شِركِه، وكنّا نلقى منه البلاء، فكان من أشدّ النّاس علينا في إسلامنا، قالت فقال:
إلى أين يا أمّ عبد الله ؟
قالت: فقلت: نعم، والله لنخرجَنّ في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا حتّى يجعل الله مخرجا.
فقال: صحبكم الله ..
قالت: ورأيتُ له رِقَّةً لم أكن أراها، ثمّ انصرف وقد أحزنه - فيما أرى - خروجُنا. قالت: فجاء عامر بحاجته، فقلت له: يا أبا عبد الله ! لو رأيت عمر آنفا ورقّته وحزنه علينا !
قال: أطمِعت في إسلامه ؟ قالت: قلت: نعم.
قال: فلا يسلم الذي رأيتِ حتّى يُسلِم حمار الخطّاب - يأسا منه لما كان يرى من غلظته وقسوته على الإسلام -.
ولا شكّ أنّ الصّخور تلين مع الأيّام:{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: من الآية74].. ولا شكّ أنّ الحديد يلين .. وكلّ شيء إلى حين ..
وتحرّكت المطايا والقلوب تلوح لمكّة، وركبّ المعذّبون البحر، وارتفعوا مع الموج وانخفضوا حتّى قذفهم على ساحل الحبشة، حيث استراحت أبدانهم وقلوبهم، وانشرحت صدورهم ..
أمّا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فمكثوا في مكّة يمشون على الأشواك، ويُحثى عليهم التّراب .. ويُبصق في وجوههم ويُداس على رؤوسهم ..
لكنّهم ما كانوا يتراجعون، بل كانوا كلّ يوم يتزايدون، كأنّهم يقتاتون الشّقاء، ويحتسون المرارة والعناء، فاضطرب أهل مكّة لهذا الدّين الّذي يشتدّ عوده كلّما اضطُهِد أتباعه ..
ولا بأس أن نقف مع قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ ))..كيف ذلك ..
أوّلا: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أعظم من تأذّى الأذى المعنويّ، فلا شكّ أنّ صاحب الدّعوة لا يريد أن يتأذّى النّاس بسببه ..
ثانيا: إنّ أوّل ما يتبادر إلى أذهان النّاس أن يقولوا: لو كان على حقّ لنصره الله تعالى، فمتى نصر الله ؟
ثالثا: لا تتحدّث عن السّب والشّتم والسّخرية والاستهزاء، فهي أشدّ من السّيوف المهنّدة، والأسنّة المجرّدة .. فلقّب بالسّاحر والمجنون والكذّاب الأشر والمفتون ..
رابعا: وكان له حظّ من العذاب مع أصحابه ..
وهذا ما سوف نسلّط عليه الضّوء في حلقة قابلة.
والله الموفّق لا ربّ سواه.