عندها تتابع المشركون يَفدون أسراهم بأموالهم: أربعة آلاف درهم عن كلّ أسير.
وكانت قريش قد كلّفت بفداء المشركين أحدَ وجهائها ممّن شهد بدرا .. إنّه ذلك الذي رأى بجادا أسودَ نازلا من السّماء: جبير بن مطعم بن عديّ.
جاء يمتطي راحلته، متّجها إلى مدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم .. وهو يحلم أن يفكّ جميع الأسرى.. ولكنّه:
وقع في الأسر.. لم يأسره أحد من الصّحابة.. ولا حتّى من قطّاع الطّرق..
كان يمشي بهدوء بمحاذاة جدار مسجد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ..وكان الصّحابة يصلّون صلاة المغرب، فأسره القرآن الكريم.
روى الطّبراني بسند حسن عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنّه:
جاء في فداء أسارى أهل بدر، قال: فوافقت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرأ في صلاة المغرب:{ وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)}.. قال: فأخذني من قراءته، فكان ذلك أوّل ما سمعت من أمر الإسلام.
وفي رواية قال: فسمعته صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرأ وقد خرج صوته من المسجد:{إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)}.
وفي رواية البخاري عن محمّدِ بنِ جُبَيْرٍ عنْ أبِيهِ - وَكَانَ جَاءَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ - قال رضي الله عنه: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا وَقَرَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي.
وفي رواية أخرى للبخاري قَالَ:فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ (37)} قال: كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ.
وهكذا رجع جبير بن مطعم رضي الله عنه بغير القلب الّذي أتى به.. رجع بقلب يحمل إيمانا أنساه قتلَ حمزة لعمّه..
وبعد أيّام وصل رجل إلى المدينة يحمل قلادةً إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. فما إن رأى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تلك القلادة حتّى اهتزّت نياطُ قلبه.. إنّها قلادة من زينب رضي الله عنها تفدِي بها زوجها أبا العاص بن الرّبيع.
ففي حديث أبي داود عن عائشة رضي الله عنها: لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ، بَعَثَتْ زَيْنَبُ فِي فِدَاءِ أَبِي الْعَاصِ بِمَالٍ، وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلَادَةٍ لَهَا كَانَتْ عِنْدَ خَدِيجَةَ، أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ، قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: (( إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا )) فَقَالُوا: نَعَمْ !..
فأطلقوا سراح أبي العاص، وذكّره النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بوعده له، وحدّد له مكان اللّقاء بها، وكان مكانا يقال ( بطن يأجج )[1] قريب من مكّة.. فوصل أبو العاص مكّة، وأخبرها بوعده لأبيها صلّى الله عليه وسلّم، فاختارت الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وتوجّهت إلى بطن يأجج.
وفي تتمّة حديث أبي داود السّابق: وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَرَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: (( كُونَا بِبَطْنِ يَأْجَجَ حَتَّى تَمُرَّ بِكُمَا زَيْنَبُ فَتَصْحَبَاهَا حَتَّى تَأْتِيَا بِهَا )).
هذه قضيّة بعض الأسرى، فماذا عن الآخرين ؟
انتفع بالفداء أصحاب الأموال، ولكنّ هناك طائفة لا يملكون فداء ولا مالا، استخفّهم أبو جهل فأطاعوه.
وها قد ذهب أبو جهل إلى النّار وتركهم في القيود.
وهناك من رفض أهاليهم دفع الفداء لهم.. فماذا سيفعل بهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ؟.. هل سيقتلهم ؟ أو هل ينتظر بعض أهل مكّة يرقّ لهم حالهم ؟!
فنزلت آية من الأنفال فيها ماء عذب زلال يسقي بذور الخير في قلوب هؤلاء الأسرى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال:70].
كلمات تضع المغفرة والجنّة بين أيديهم .. فمن أراد الإسلام فلا حاجة لأَسره، وليعِش بين أهل المدينة على الرّحب والإيمان والسّعة..
ومن أبى فله أن يرجع إلى أهله لكن بشرط أن يدفع فداءه علما يعلّمه صغار الأنصار:
روى أحمد والحاكم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنْ الْأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِدَاءٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فِدَاءَهُمْ أَنْ يُعَلِّمُوا أَوْلَادَ الْأَنْصَارِ الْكِتَابَةَ. ["صحيح الجامع" (2/727)].
ويخبرنا ابن عبّاس رضي الله عنه عن قصّة طريفة حدثت بين أحد الأسرى وأبٍ لأحد الغلمان الأنصار، قَالَ:" فَجَاءَ يَوْمًا غُلَامٌ يَبْكِي إِلَى أَبِيهِ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ ؟ قَالَ: ضَرَبَنِي مُعَلِّمِي ! قَالَ: الْخَبِيثُ ! يَطْلُبُ بِذَحْلِ بَدْرٍ، وَاللهِ لَا تَأْتِيهِ أَبَدًا ".[الذّحل: الثّأر].
المهمّ والأهمّ، أنّه تعلّم جمع كبير من أبناء الأنصار القراءة والكتابة، وتفوّق المسلمون على عدوّهم حربا وعلما.. وعاد بقيّة الأسرى إلى أهاليهم بعد الوفاء بشرطهم.
ملخّص ما جاء في غزوة بدر:
• تاريخ الغزوة: 17 رمضان من السّنة الثّانية.
• سببها: اعتراض عير قريش القافلة من الشّام.
• مكانها: بـدر.
• المستخلف على المدينة: أبو لبابة بن عبد المنذر.
• حامل لواء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: مصعب بن عمير رضي الله عنه.
• قائد العدوّ: أبو جهل.
• قوّات المسلمين: 314
• قوّة العدوّ: 950 مقاتلا.
• مدة بقاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خارج المدينة: 19 يوما.
• ما نزل فيها من القرآن: الأنفال.
• نتيجة الغزوة: نصر عظيم للمسلمين، حتّى سمّاه الله يوم الفرقان، حيث قتلوا سبعين وأسروا سبعين، وقتل من المسلمين 14 شهيدا.
ونتيجة الفداء والغنائم فتح الله على المؤمنين باب رزق فشبعوا، وباب علم فتعلّم أطفالهم الكتابة.
بعدها بأيّام كان أوّلُ عيدِ فطرٍ في حياة المسلمين .. عيدٌ وافق أوّل اصطدام وانتصار على الكافرين المعتدين.
كأنّي بهم وهم يكبّرون ويهلّلون إذا بآية الأنفال تذكّرهم بنعم الله التامّة:{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26].