الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته. فقد تضمّن سؤالك مسألتين اثنتين:
المسألة الأولى: حكم الصّلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في التشهّد الأوّل.
الصّواب - والله أعلم - هو مشروعيّتها، ولا يبعُد القول بوجوبها، وهو مذهب الشّافعيّ رحمه الله.
وممّا يدلّ على ذلك أمران:
1- أنّ الأصل في السّلام عليه صلّى الله عليه وسلّم أنّه مقرون بالصّلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.
وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه قالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، هَذَا التَّسْلِيمُ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ ؟ قَالَ: (( قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ )).
ووجه الدّلالة: أنّه إذا شرع السّلام عليه صلّى الله عليه وسلّم في التشهّد الأوّل، فينبغي أن يُقرنَ بالصّلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم.
2- ما رواه النّسائي وأبو عوانة في "المستخرج" أَنّ عائِشةَ رضي الله عنها قالتْ:
كُنَّا نُعِدُّ لِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم سِوَاكَهُ، وَطَهُورَهُ، فَيَبْعَثُهُ اللهُ عزّ وجلّ لِمَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنْ اللَّيْلِ، فَيَسْتَاكُ، وَيَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ، لَا يَجْلِسُ فِيهِنَّ إِلَّا عِنْدَ الثَّامِنَةِ، وَيَحْمَدُ اللهَ وَيُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَيَدْعُو بَيْنَهُنَّ، وَلَا يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا، ثُمَّ يُصَلِّي التَّاسِعَةَ وَيَقْعُدُ، وَيَحْمَدُ اللهَ، وَيُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَيَدْعُو، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ قَاعِدٌ ".
ووجه الدّلالة: قولها حين جلس في الرّكعة الثّامنة: ( وَيَحْمَدُ اللهَ وَيُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ صلّى الله عليه وسلّم ) فالحمد هو التشهّد، ويليه الصّلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ يقوم - ولا يسلّم - إلى التّاسعة.
المسألة الثّانية: حكمها في التشهّد الثّاني: أي في الصّلاة آخر التشهّد.
فقد أجمعوا على مشروعيّتها، واختلفوا في وجوبها على قولين:
1- الاستحباب، وهو قول أكثر العلماء، ونسبوا القائل بالوجوب إلى الشّذوذ ومخالفة الإجماع، كما فعل الطّحاوي والقاضي عياض، والخطّابي رحمهم الله.
واستدلّوا:
* بكلّ الأحاديث الّتي فيها الأمر بالتشهّد وليس فيها ذكر للصّلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم.
* وأنّه صلّى الله عليه وسلّم لم يعلّمها المسيءَ صلاتَه.
* وبما رواه أحمد وغيره عن فَضَالَةَ بنِ عُبَيدٍ رضي الله عنه قالَ: بَيْنمَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَاعِدٌ، إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، فقالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي. فقالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( عَجِلْتَ أَيُّهَا الْمُصَلِّي، إِذَا صَلَّيْتَ فَقَعَدْتَ، فَاحْمَدْ اللهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَصَلِّ عَلَيَّ، ثُمَّ ادْعُهُ )).
ووجه الدّلالة: أنّه لم يأمره بالإعادة.
2- الوجوب، وهو قول ابن مسعود، وأبي مسعود البدريّ، وابن عمر رضي الله عنهم، والشّعبي، ومقاتل، وبه قال الشّافعيّ، وإسحاق، وأحمد في رواية أبي زرعة عنه.
ولو قال قائل بإجماع الصّحابة على وجوبها لما أبْعَد؛ لأنّه لا يُعلم لمن ذكرنا مخالفا واحد منهم.
وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:(( صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ))، والأمر للوجوب إلاّ لقرينة صارفة إلى الاستحباب.
* أمّا التشهّد فإذا أطلق فيشمل الصّلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ كما أنّه إذا أطلقت الصّلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم فإنّها تشمل التّسليم عليه صلّى الله عليه وسلّم.
* أمّا حديث المسيء صلاته فهو لم يذكر كلّ ما يجب في الصّلاة كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله.
* أمّا حديث فضالة فهو حجّة للقائلين بالوجوب؛ لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمره بها، غير أنّه لم يأمره بالإعادة لأنّها واجب لا تبطل الصّلاة بتركه، ولأنّه كان في نافلة لا تجب إعادتها.
والله تعالى أعلم، وأعزّ وأكرم.