فمعنى الأذكار الجامعة إذن: هي الّتي قلّ لفظُها وكثر معناها، وكثر أجرها، فجمعت أجر ما يقوله العبد مرارا، ويكرّره العبد تكرارا، فيُكتب له الأجر على قدر ما يقع عليه اللّفظ، فإذا قال العبد:" الحمد لله عدد ما خلق "، كان عدد تحميداته كذلك، وإذا قال:" الحمد لله كثيرا "، كتبها الله له أنّه حمده كثيرا.
- الحديث الأوّل:
عنْ جويرِيَةَ رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ:
(( مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا ؟)).
قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم:
(( لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: " سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ )).
[رواه مسلم، وأبو داود، والنّسائي، وابن ماجه، والتّرمذي].
وفي رواية لمسلم:
(( سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ )).
زاد النّسائي في آخره [يعني في "اليوم واللّيلة"(212-213)]:
(( وَالحَمْدُ للهِ كَذَلِكَ )).
وفي رواية له:
(( سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَكَلِمَاتِهِ )).
ولفظ التّرمذي:
أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم مَرَّ عَلَيْهَا وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ مَرَّ بِهَا وَهِيَ فِي المَسْجِدِ، قَرِيبٌ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ، فَقَالَ لَهَا:
(( مَا زِلْتِ عَلَى حَالِكِ ؟)).
فَقَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ:
(( أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهَا: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ (ثلاثَ مرّات)، سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ (ثلاثَ مرّات) ، وذكر زِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ، ثلاثاً ثلاثاً )).
وقال: " حديث حسن صحيح ".
وفي رواية للنّسائي تكرارُ كلّ واحدة ثلاثا أيضا.
- شرح الحديث:
- هذا النّوع الأوّل من الأذكار الجامعة، وله ألفاظ عدّة:
أ) إمّا أن تجمع بين التّسبيح والتّحميد عدد خلقه ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته ثلاث مرّات، وهذه رواية مسلم وأصحاب السّنن.
ب) أو تفرد التّسبيح والتّحميد كلّ على حدة، ( سبحان الله عدد خلقه ....، الحمد لله عدد خلقه...)، كما في رواية مسلم مع زيادة عند النّسائي.
ج) أو تجمع بين التّسبيح والتّحميد، والّتهليل، والتّكبير عدد خلقه وزنة عرشه ومداد كلماته. وهذه رواية للنّسائي.
د) أو تقتصر على التّسبيح، فتكرّر ( سبحان الله عدد خلقه ) ثلاثا، و( سبحان الله رضا نفسه ) ثلاثا، و( سبحان الله زِنة عرشه ) ثلاثا، و( سبحان الله مداد كلماته ) ثلاثا. وهذه رواية التّرمذي.
- قولها: ( خرج من عندها ): رواية مسلم فيها: " بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا "، ومسجدها هو مكان صلاتها.
وفي الحديث مشروعيّة اتّخاذ المرأة مصلًّى في بيتها، لا سيّما في خدرها، ويؤيّد ذلك أحاديث كثيرة منها ما رواه الإمام أحمد وابن خزيمة عن أُمِّ حُمَيْدٍ امرأَةِ أبِي حُمَيْدٍ السّاعِدِيِّ رضي الله عنه أنّهَا جَاءَتْ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُحِبُّ الصَّلَاةَ مَعَكَ ؟ قَالَ: (( قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكِ تُحِبِّينَ الصَّلَاةَ مَعِي، وَصَلَاتُكِ فِي بَيْتِكِ خَيْرٌ لَكِ مِنْ صَلَاتِكِ فِي حُجْرَتِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي حُجْرَتِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي دَارِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي دَارِكِ خَيْرٌ لَكِ مِنْ صَلَاتِكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ خَيْرٌ لَكِ مِنْ صَلَاتِكِ فِي مَسْجِدِي )).
قَالَ: فَأَمَرَتْ فَبُنِيَ لَهَا مَسْجِدٌ فِي أَقْصَى شَيْءٍ مِنْ بَيْتِهَا وَأَظْلَمِهِ فَكَانَتْ تُصَلِّي فِيهِ حَتَّى لَقِيَتْ اللهَ عزّ وجلّ.
بل يستحبّ للرّجل العاجز عن الذّهاب إلى المسجد أيضا أن يتّخذ مسجدا في بيته لصلاته، أو لم يكن عاجزا فيتّخذ مكانا للتطوّع فيه.
فقد روى البخاري عن محمُودِ بنِ الرّبِيعِ الأَنصَارِيِّ رضي الله عنه أنَّ عِتْبَانَ بنَ مالِكٍ رضي الله عنه كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ، وَهُوَ أَعْمَى، وَأَنَّهُ قالَ لِرسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: يا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهَا تَكُونُ الظُّلْمَةُ وَالسَّيْلُ، وَأَنَا رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ، فَصَلِّ يَا رَسُولَ اللهِ فِي بَيْتِي مَكَانًا أَتَّخِذُهُ مُصَلَّى ؟ فَجَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: (( أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ )) فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ مِنْ الْبَيْتِ، فَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم.
- قولها: " ثمّ رجع بعد أن أضحى ": فيه حرص النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على المكث في المسجد إلى الضّحى.
- قوله: " ما زلتِ على الحال الّتي فارقتك عليها " فيه بيان اجتهاد جويريّة بنت الحارث على ذكر الله تعالى، وعبادة الله.
وفيه بيان أنّ من العبادات المسنونة: الجلوس لذكر الله الأذكار المشروعة غير قراءة القرآن. وهذه الجلسة حرِص عليها السّلف كما يحرص المسلمون اليوم على غذائهم.
- قوله: ( أربع كلمات ): أي أربع جمل، كما سبق بيانه.
- ( منذ اليوم ): أي في اليوم، لأنّ " منذ " الحرفيّة لها معنيان: معنى (من) إذا دخلت على ماضٍ، نحو قولك: " ما رأيته منذ أمس "، وتأتي بمعنى (في) إذا دخلت على حاضر كهذا الحديث، قال ابن مالك رحمه الله عن ( مذ ومنذ ):
( وَإِنْ يَـجُـرَّا فِـي مُـضِـىٍّ فَكَـ(مِـنْ) هُـمَا وَفِـي الحُضُـورِ مَعْـنَى (فـي) اسْـتَبِنْ )
- قوله: ( لوزنتهنّ ): أي: إنّ الأجر الّذي يتحصّل عليه العبد من ترديد هذه الكلمات ثلاث مرّات يعدل أجر من جلس من الفجر إلى الضّحى وهو يذكر الله تعالى، وهذا أحد وجوه كونها جامعة، فهي شاملة لعظيم الأجور زيادة على شمولها لعظيم المعاني.
- قوله: ( عدد خلقه ) أي: قدر عددِ خلقِه، وهو وإن كان محصورا لكن لا يعلم عدد خلقه إلاّ الله، من إنس وجنّ، وملائكة الّذين قال فيهم المولى تبارك وتعالى:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدّثر: من الآية31]، والدوابّ صغيرها وكبيرها، بَرّيها وبحريّها، الطّائر والزاحف والماشي منها، والنّبات وكلّ ما خلق الله تعالى !
- قوله: ( رضا نفسه ): أي أسبّحه تسبيحا قدر ما يرضاه.
- قوله: ( وزنة عرشه ) أي أسبّحه بمقدار وزن عرشه، ولا يعلم وزنه إلاّ الله تبارك وتعالى، فهو أكبر مخلوقات الله على الإطلاق.
- قوله: ( مداد كلماته ) المداد يطلق على أمرين:
الأوّل: الحبر الّذي يكتب به.
والثّاني: العدد، وهو مأخوذ من المدد، فإذا مددت الشّيء زدت في عدده، ومنه قوله تعالى:{وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [الإسراء: من الآية6]، ويمكن أن يكون الحبر سمّي مدادا لأنّه يمدّ به القلم.
ويحتمل الحديث المعنيين، أي لو كتب كلام الله تعالى بمداد فأنا أسبّحه بمقدار ذلك الحبر، أو يقال: أي: مثل عدد كلماته.
قال العلماء: واستعماله هنا للمبالغة، وإلاّ فإنّ كلمات الله تعالى لا تحصر بعدّ ولا غيره، لأنّه ذكر أوّلا ما يحصره العدّ الكثير من عدد الخلق، ثمّ زنة العرش، ثمّ ارتقى إلى ما هو أعظم من ذلك. وعبر عنه بهذا، كأنّه قال: ما لا يحصيه عدٌّ، كما لا تحصى كلمات الله تعالى.
قال في "تحفة الأحوذي":
" والحديث دليل على فضل هذه الكلمات، وأنّ قائلها يدرك فضيلة تكرار القول بالعدد المذكور، ولا يتّجه أن يقال: إنّ مشقّة من قال هكذا أخفّ من مشقّه من كرّر لفظ الذّكر حتّى يبلغ إلى مثل ذلك العدد، فإنّ هذا باب منحه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعباد الله وأرشدهم ودلّهم عليه، تخفيفا لهم، وتكثيرا لأجورهم من دون تعب ولا نصب، فلله الحمد ".
والله الموفّق.