روى أبو داود عن عكرمَةَ أنّ نَفَرًا من أهْلِ العِرَاقِ قالوا:" يا ابنَ عَبَّاسٍ، كَيْفَ تَرَى في هَذِهِ الآيَةِ الّتِي أُمِرْنَا فِيهَا بِمَا أُمِرْنَا وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ: قَوْلُ اللهِ عزّ وجلّ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ ...} الآيةَ ؟ قال ابنُ عبّاسٍ رضي الله عنهما: إِنَّ اللهَ حَلِيمٌ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ، يُحِبُّ السَّتْرَ، وَكَانَ النَّاسُ لَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ سُتُورٌ وَلَا حِجَالٌ، فَرُبَّمَا دَخَلَ الخَادِمُ أو الولدُ أو يَتِيمَةُ الرّجُلِ، وَالرّجُلُ على أهلِهِ، فَأَمَرَهُمْ اللهُ بِالِاسْتِئْذَانِ في تلكَ العَوْرَاتِ، فَجَاءَهُمْ اللهُ بِالسُّتُورِ وَالْخَيْرِ، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَعْمَلُ بِذَلِكَ بَعْدُ ".
هذه الآية تنصّ على وجوب استئذان أهل الدّار بعضِهم على بعض، وتنصّ على العلّة، وهي: أنّها أوقات نومٍ وانبساطٍ إلى الأهل، فيُفهم منها: أنّه ينبغي للمسلم أن يتَّقِي الزّيارةَ هذه الأوقات للعلّة المذكورة، إلاّ عند الحاجة والضّرورة.
- الثّاني: قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب من: 53]، أي غير مترقّبين ومنتظرين إِنَة الطّعام.
والإِنَى: وقته وإدراكه، ومنه قولنا الآن أي هذا الوقت، ومنه قولنا آن كذا، ومنه قوله تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَق} [الحديد: من الآية16].
فإذا كنت تعلم أنّه وقت أكلٍ وطعام، فلا ينبغي أن تعكّر عليه صفوَه، وتفسِد عليه حالَه، إلاّ إذا كنت مدعُوّا، فذاك مشروع، ويُقاس عليه وقت النّوم للعلّة نفسِها.
- الثّالث: كان العرب يستنكرون الزّائرَ هذه الأوقات الثّلاث: قبل الفجر، ووقت الظّهيرة، وبعد العشاء.
ويدلّ عليه ما رواه البخاري عن عائشةَ رضي الله عنها قالت:
لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً.
فَبَيْنَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِنَا فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَقَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم مُقْبِلًا مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا !
قال أبو بكْرٍ: " فِدًا لَكَ أَبِي وَأُمِّي ! وَاللهِ إِنْ جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا لِأَمْرٍ !...
ثمّ ذكرت حديث الإذن له صلّى الله عليه وسلّم بالهجرة.
والشّاهد: قولها: ( إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً )، وقول الصّديق: ( وَاللهِ إِنْ جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا لِأَمْرٍ ).
ويؤيّد هذه الأدلّة عملُ السّلف:
فقد روى الحاكم والطّبراني عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: لمّا قُبِض النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قلتُ لرجلٍ معي: إنّ هذا العلمَ ليوجد عند هذا الحيّ من الأنصار، فتتبّعت العلمَ أجمعُه منهم، فإذا بلغني الحديث عن أحد منهم ذهبت إليه، وإن كان قائلاً [من القيلولة] جلسْتُ عندَ عتبةِ بَابِه، ولمْ أطرُقْ عليه بابَه ولم أستأْذِنْ، والرِّيحُ تسُفّ عليَّ التّراب وأنا جالس أنتظر خروجَ هذا الأنصاريّ، فإذا خرج قال لي: غفر الله لك يا ابن عمّ رسول الله، ألا دعوتني فآتيَك ؟ فقال ابن عبّاس: لا، العلم يُؤْتَى.
وفي رواية الدّارمي رحمه الله:" وُجِد أكثرُ حديثِ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم عنْدَ هذا الحَيّ من الأَنصَار، واللهِ إنْ كنْت لآتِي الرَّجُل مِنْهم فيُقَالُ: هو نائم، فلو شئت أن يوقَظَ لِي، فأَدَعُه حَتَّى يَخْرجُ".
وقد ذكر الإمام الآلوسي رحمه الله هذه القصّة وقال: بلغتني هذه القصّة وأنا صغير فتأدّبت بها فنفعني الله بها.
وقد حُكِي عن بعض أفاضل هذا العصر أنّه زار والدته بالمدينةِ فبلغ المدينة بين الظّهر والعصر، فما رضي أن يستأذنها خشية أن يعكّر عليها راحتها !
الشّاهد: هو مراعاة وقت الزّيارة، وأنّ الأدب لا بدّ منه.
الأمر الثّاني: مراعاة الوقت التي دعيت إليه.
فلا تزد عليه، قال تعالى:{فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53].
قالت عائشة وابن عبّاس رضي الله عنهم: حَسْبٌك من الثّقلاء أنَّ الله لَمْ يستَحْيِ منهم.
لذلك سمّاها العلماء:" آية الثّقلاء "، قال ابن أبي عائشة وحمّاد بن زيد: أنزلت في الثّقلاء: يأتون وقت الطّعام، ثمّ يستأنس للحديث.
وقد أدّب الله صحابة نبيّه في العصر الأوّل، ففرض عليهم الصّدقة قبل مناجاة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم؛ فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)} [المجادلة].
قال ابن عبّاس رضي الله عنهما:" ذلك أنّ المسلمين أكثروا من المسائل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى شقّوا عليه، فأراد الله أن يُخفّف عن نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا أنزلت آية المناجاة جبُن كثير منهم وكفّوا عن المسألة ".
قال السّعدي رحمه الله:"{ذَلِكًمْ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} أي: بذلك يكثر خيركم وأجركم، وتحصل لكم الطّهارة من الأدناس التي من جملتها ترك احترام الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وترك الأدب معه بكثرة المناجاة التي لا ثمرة تحتها، فإنّه إذا أُمِر بالصّدقة بين يدي مناجاته صار هذا ميزانا لمن كان حريصا على العلم والخير فلا يبالي بالصّدقة، ومن لم يكن له حرص ولا رغبة في الخير وإنّما مقصوده مجرّد كثرة الكلام فينكفّ بذلك عن الّذي يشق على الرّسول، هذا في الواجد للصّدقة، أمّا الذي لا يجد فإنّ الله لم يُضيّق عليه الأمر، بل عفا عنه وسامحه "اهـ.
الأمر الثّالث: التحلّي بآداب الحديث.
فلا بدّ علي الزّائر من:
1- أن ينتقي من الحديث أطيبه، ومن الكلام أحسنه، فيبتعد عن ذكر النّاس ومعايبهم، وعدّ عثراتهم وزلاّتهم.
2- وعليه باجتناب الثّرثرة، وحشر النّفس فيما لا يعني، وتضييع الأوقات فيما لا طائل تحته، فإنّ تضييع الوقت من المقت، وقد كان سفيان يقول للثّقلاء: أما آن لكم أن تقوموا ؟ إِنَّ مَلَكَ الشّمس لاَ يَفْتُر.
3- وليعلم أنّ الله قال في كتابه:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وقد أحسن من قال:
ولئن ندمت على السّكوت مرّة *** فلتندمنّ عـن الكـلام مرارا
إنّ السّكـوت سـلامة ولربّما *** زرع الكـلام عداوة وضرارا
4- وليحذر من الجدال، فإنّه زيغ وضلال، وأذى ووبال، وفي سنن التّرمذي وابن ماجه بسند حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدَى كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ أُوتُوا الجَدَلَ )) ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}.
5- اجتناب نقل ما يُؤذيه من الأخبار:
وإلاّ كنت أنت الذي تؤذيه لا المتكلّم فيه، وقد قال أحدهم للحسن البصري: يا أبا سعيد، قومٌ يجالسونك لا لشيء إلاّ لتتبّع سقطاتك، وتصيّد زلاّتك ! فتبسّم الحسن وقال:" يا هذا، أنا حدّثت نفسي بالجنان، وملاقاة الرّحمن، فطمعت في ذلك، وما حدّثتها قط بالسّلامة من أذى النّاس، فمن أنا إذا تُكُلّم في ربّ السّموات والأرض: يخلق ويُعبَد غيره، ويرزق ويُشكر سواه ".
هذا ونسأل الله تعالى التّوفيق إلى العمل بما نتعلّمه، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.