ويوم دخل جريرُ بنُ يزيدَ مجلس الشّعبيّ - وكان معه أفاضل من أهل العلم - دَعا له الشّعبيُّ بوِسادةٍ، فقالوا له: يا أبا عمرٍو ! نحنُ عندك أشياخٌ, دعوتَ لهذا الغلام بوسادةٍ ؟ فقال: إنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ )).
والحديث في سنن ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( إذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ )). [" السّلسلة الصّحيحة " (1205)].
لذلك جاء النّهي عن ردّ الوسادة وما شابهها؛ فقد روى التّرمذي عنْ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( ثَلَاثٌ لَا تُرَدُّ: الْوَسَائِدُ، وَالدُّهْنُ، وَاللَّبَنُ )) الدُّهْنُ يَعْنِي بِهِ الطِّيبَ.
وروى الطبراني أنّ ابن عمر رضي الله عنه دخل على ابنِ مطيع، فقال: السّلام عليك ! فقال: وعليك السّلام ورحمة الله ومرحبا وأهلا بأبي عبد الرّحمن، ضعوا له وسادة ! فقال ابن عمر رضي الله عنه:" لَوْلاَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: (( ثَلاَثٌ لاَ تُرَدُّ: اللَّبَنُ، وَلاَ الوِسَادَةُ، وَلاَ الدُّهْنُ )) مَا جَلَسْتُ عَلَيْهَا ".
وفي مصنّف ابن أبي شيبة أنّ أبا قِلابةَ طَرَحَ لرجلٍ وِسادةً، فقال أبو قلابةَ: إنَّهُ كَانَ يُقَالُ: ( لَا تَرُدَّ عَلَى أَخِيك كَرَامَتَهُ ).
11- الجلوس بين الظلّ والشّمس:
فقد روى ابن ماجة عن بُرَيْدَةَ بن الحصيب رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم: (( نَهَى أَنْ يُقْعَدَ بَيْنَ الظِّلِّ وَالشَّمْسِ )).
وروى الإمام أحمد عن رجلٍ منْ أصحابِ النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّ النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم (( نَهَى أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ بَيْنَ الضِّحِ وَالظِّلِّ ))، وقال: (( مَجْلِسُ الشَّيْطَانِ )). [" صحيح التّرغيب والتّرهيب " (3081)].
وروى الإمام أحمد أيضا، وأبو داود عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال أبو القاسِمِ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الشَّمْسِ فَقَلَصَ عَنْهُ الظِّلُّ، وَصَارَ بَعْضُهُ فِي الشَّمْسِ وَبَعْضُهُ فِي الظِّلِّ فَلْيَقُمْ )).
قال في "عون المعبود":
" أي فليتحوّل منه إلى مكان آخر يكون كلّه ظلاّ أو شمسا؛ لأنّ الإنسان إذا قعد ذلك المقعد فَسَدَ مِزاجُه لاختلاف حال البدن من المؤثِّرَين المتضادّين، كذا قيل.
والأَوْلَى أن يُعلَّل بما علّله الشّارع بأنّه مجلس الشّيطان "اهـ.
12- ترك السّلام حال دخول المجلس، وحال الانصراف منه:
فالسّلام الأوّل للدّخول، والثّاني للإيذان بالانصراف. وهذا من الأدب الجميل الذي يورث المحبّة بين المؤمنين، وإنّ تركه دليل على الغلظة والجفاء، ممّا يورث العداوة والبغضاء.
ولهذا روى الإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرَةَ رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى مَجْلِسٍ فَلْيُسَلِّمْ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ، ثُمَّ إِذَا قَامَ فَلْيُسَلِّمْ؛ فَلَيْسَتْ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنْ الْآخِرَةِ )).
13- الجلوس في الطرقات:
فقد شاع جلوس النّاس في الطرقات العامّة التي يسلكها الرّجال والنساء، والأشراف والسّفهاء، ويختلط فيها الحابل بالنّابل، فيعرّض نفسه الأمّارة بالسّوء للفتنة والباطل.
والفتنة الّتي يتعرّض إليها هؤلاء نوعان: وقوع في حرام، أو تقصير في القيام بآداب الإسلام.
ويجمع ذلك كلَّه ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه عن النّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
(( إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ )) فَقَالُوا: مَا لَنَا بُدٌّ ! إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا.
قال: (( فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجَالِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا )) قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ ؟
قال: (( غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ )).
قال النّووي رحمه الله:
" هذا الحديث كثير الفوائد, وهو من الأحاديث الجامعة, وأحكامه ظاهرة, وينبغي أن يجتنب الجلوس في الطّرقات لهذا الحديث.
ويدخل في كفّ الأذى: اجتنابُ الغِيبة, وظنِّ السّوء, وإحقارِ بعض المارّين, وتضييقِ الطّريق, وكذا إذا كان القاعدون ممّن يهابهم المارّون, أو يخافون منهم, ويمتنعون من المرور في أشغالهم بسبب ذلك؛ لكونهم لا يجدون طريقا إلاّ ذلك الموضع "اهـ.
تنبيه مهمّ:
ممّا نغفل عنه ونحن نقرأ هذا الحديث العظيم أمور ثلاثة، أودّ التّنبيه عليها، والإشارة إليها:
أ) إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ينهى أصحابه عن الجلوس في الطّرقات، وهم أبرّ النّاس قلوبا وسريرة، وأحسنهم أخلاقا وسيرة.
ب) ثمّ ما هذه الطّرقات التي ينهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أصحابَه عن الجلوس فيها ؟
إنّها مدينةٌ العلم والهُدى .. مجتمع لم يخلق الله تعالى أطهر منه !
ج) ثمّ إنّهم رضي الله عنهم كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فكانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
فقارن بين طرقات ذلك الزّمان وطرقات هذه الأيّام ! وقارن بين الجالسين في كلا العَصْرين !
14- التّناجي دون الثّالث:
روى البخاري ومسلم عن عبدِ اللهِ بن عمر رضي الله عنهما أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةٌ فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ )).
ومفهوم الحديث جواز تناجي الاثنين إذا كانوا أكثر من ثلاثة، بل جاء ذلك مصرّحا به في رواية أخرى. حيث قال رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( إذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ؛ أَجْلَ أَنْ يُحْزِنَهُ، حَتَّى يَخْتَلِطَ بِالنَّاسِ )).
وروى ابن أبي شيبة عنْ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال:" إذَا كَانَ الْقَوْمُ أَرْبَعَةً فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ صَاحِبَيْهِمَا "
ولا بدّ أن نعلم أنّ التحدّث بلغة لا يفهمها الثّالث يُعتبر من المناجاة.
والله أعلم، وأعزّ وأكرم.