وما أمر الدجّال عنّا ببعيد، فإنّه لا يظهر الدّجّال حتّى يترك الأئمّة ذكره على المنابر - كما جاء في الحديث الصّحيح -، مع أنّ الدّجّال تنفِر القلوب منه، فكيف بالغناء الّذي تقبل النّفوس عليه، وتسرع الأهواء إليه !
• ثانيا: لأنّنا في قلب فصل المنكرات، ولا يشيع الغناء ولا يذيع، كما في هذا الفصل الْمُريع: تكثر الأعراس والأفراح، فتحيى معها كثير من الجراح .. وفي كثير من المناطق والأحياء عادت ظاهرة الجهر بالغناء في الأفراح بعد أن مضى عليها زمن ستِرت في قاعات الحفلات ..
• ثالثا: أنّ الجهر بالغناء من أنواع الظّلم، و{إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}، {وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ}، و(( إِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ )).
وقد عظّم الله عزّ وجلّ شأن الظّلم حتّى حرَّم إلقاء الفضلات والقاذورات في طرق النّاس وأماكن جلوسهم، روى أبو داود عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ )) قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: (( الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ ظِلِّهِمْ ))..
فإذا كان الّذي يؤذي النّاس في طرقاتِهم، وأماكن جلوسهم تحلّ عليه اللّعنة، فما بالك بالّذي يؤذي المؤمنين في دينهم، وأعزّ وأعظم ما لديهم ؟! فلا شك أنّه أشدّ إثما، وأعظم جُرْماً من أولئك؛ فقد جاء في الصّحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ ))..
• رابعا: إنّ الموسيقى قد هان أمرُها حتّى على بعض الصّالحين من النّاس، فصارت تدخل بيوتَ الله تعالى ! فلا تمرّ بنا صلاة من الصّلوات إلاّ ونسمع رنينَ الهواتف المحمولة يتردّد في جوانب المساجد !
ولا تسأل عن تساهلهم في أمر الموسيقى وهم يشاهدون ما يشاهدون على شاشات التّلفاز .. زد على ذلك أنّهم يسمعون من هنا أو هناك فتاوى لا زمام لها ولا خطام تبيح الموسيقى والغناء، فتعلّق بهم كثير من أصحاب القلوب الرّقيقة ..
فآن الأوان لنذكّر أنفسنا بحكم الغناء في الشّريعة الغرّاء، فأعيروني القلوب والأسماع والأبصار، ونسأل الله تعالى العليّ الغفّار أن يهدِينا سواء السّبيل، إنّه بكلّ جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فلا يشكّ الصّالحون في تحريم الغناء .. فهو حرام حرام لا نقاش في ذلك ولا كلام .. ولكن حسبنا أن نذكِّر الغافل ونعلِّم الجاهل، فنسمعه كلام ربّ العالمين، وأحاديث سيّد المرسلين، وآثارا عن سادات الأصحاب والتّابعين.
1- النصّ الأوّل: يقول الله عزّ وجلّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6].
روى الإمام أحمد والترمذي وابن خزيمة عن أبي أمامة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( لاَ تَبِيعُوا القَيْنَاتِ –أي: الجَوَارِي المُغَنِّيَاتِ - وَلاَ تَشْتَرُوهُنَّ، فِي مِثْلِهِنَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ...)) وتلاها.
وهذا حديث صحيح نفيس، لأنّ الشّائع لدى طلبة العلم أنّ هذا التّفسير هو من تفسير الصّحابة، والحقّ أنّه من تفسير النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وقال أبو الصّهباء: سألت ابن مسعود رضي الله عنه عن قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ} الآية .. فقال:" والله الّذي لا إله إلاَّ هو، والله الّذي لا إله إلاّ هو، والله الّذي لا إله إلاّ هو، إنّه الغناء "!
وهو قول ابن عبّاس رضي الله عنهما أيضا، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وغيرهم.
فيكفينا هذا النص القرآنيّ، وتفسير النبيّ صلّى الله عليه وسلّم له.
وتأمّلوا تسمية الله له ( لهوا ) فهو يدلّ على أّنّ بينه وبين الحقّ بُعدَ المشرقين.
سمّاه ( لهو الحديث )، ليدلّ على أنّه جاء ليُفسِد ما يدعو إليه أحسن الحديث وهو القرآن الكريم، فقد ذكرت كلمة " الحديث " في القرآن الكريم 6 مرّات، خمسا منها أريد بها القرآن الكريم، قال تعالى:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف/6]، وقال:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزّمر/23]، وقال:{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} [النّجم/59]، وقال:{أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} [الواقعة/81]، وقال:{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [القلم/ 44].
ومرّة واحدة فقط أطلقها على الغنـاء ! وكأنّه يشير إلى أنّه ليس ثمّة إلاّ أحسن الحديث، أو لهو الحديث، ولا يجتمع في قلب العبد المؤمن هذا الحديثان.
وهناك أسماء أخرى كثيرة أطلِقت على الغناء، جاء ذكرها في الكتاب، والسنّة، وأقوال الصّحابة والتّابعين، منها: اللّهو، واللّغو، والباطل، والزّور، والمكاء، ورقية الزّنا، وقرآن الشّيطان، ومنبت النّفاق، والصّوت الأحمق، ومزمار الشّيطان، والسّمود ..
( أسْـمـاء دلّـت عـلى أوصـافـه *** تبّـا لذي الأسـمـاء والأوصـاف )
2- النصّ الثّاني: قال الله سبحانه وتعالى يوم طرد إبليس من رحمته، وأبعده من جنّته:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء/64].
روى الإمام ابن أبي حاتم عن مجاهد بن جبر تلميذِ ابنِ عبّاس رضي الله عنهما قال:" صوته الغناء "، وفي رواية: صوته المزامير.
3- النصّ الثّالث: قوله تعالى:{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)} [النّجم].
قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: إنّ السّمود هو الغناء في لغة حِمير، يقال: اسمدي، أي: غنِّي.
ثلاثُ آياتٍ صريحة في تحريم الغناء .. وما أجهل أكثر النّاس في زماننا بها !
والّذي أريد أن أشير إليه، وأنبّه عليه: أنّ هذه الآيات كلّها مكّية، أي نزلت بمكّة قبل الهجرة، وهذا يعني أنّ الله تعالى قد حرّم الغناء قبل أن يُحرّم الخمر، فما حرّمت الخمر إلاّ في العام الثّامن من الهجرة، وقيل بعد ذلك .. حرِّم الغناء قبل أن تفرَض الزّكاة، والصّوم، والحجّ، وقبل أن يشرع الجهاد، وقبل كثير من الواجبات الّتي يسلّم بها المسلم .. لماذا ؟
لأنّ الغناء خمرُ النّفوس، والشّراب المحرّم أقلّ إسكارا من الغناء، إذ السّكران يفيق بعد مدّة قصيرة، أمّا الغناء فهو يدعو إلى الدّنيا وملاهيها وشهواتها، فتعشّش في سويداء قلبه، فلا يفيق من سكرته إلاّ أن يشاء الله.
سيعلم يـوم العرض أيَّ بضاعة *** أضاع وعند الوزن ما خفّ أو ربا
ويعلم ما قـد كان في حياتـه *** إذا صارت أعمالـه كلـها هَـبَا
دعاه الهدى والغَيّ، من ذا يجيب؟ *** فقال لداعي الغيّ:أهـلا ومـرحبا
وأعرض عن داعي الهدى قائلا له *** هواي إلى صـوت المعازف قد صبا
الخطبة الثّانية:
الحمد لله الّذي أنعم علينا بالقرآن، وجنّبنا بفضله وكرمه خطوات الشّيطان، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك، جعل في كتابه الهدى والشّفاء والنّور والبيان، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، وصفيّه وخليله، الدّاعي إلى دار السّلام والكرامة والرّضوان، صلّى الله وسلّم عليه وعلى آله وصحبه وعلى كلّ من اتّبعهم بإحسان، أمّا بعد:
فإلى جانب النّصوص القرآنية الّتي ذكرناها، فإنّ هناك نصوصا كثيرة من السنّة جاءت تقضي بما قضى به القرآن، فنصّت على تحريم الاستماع إلى مزمار الشّيطان، ونحن نقتصر على حديثين صريحين في تحريم الغناء:
- الحديث الأوّل: روى البخاري عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( لَيَكُونَنَّ أَقْوَامٌ مِنْ أُمَّتِي يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ، وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ، وَالمَعَازِفَ ))..
هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوّة .. غيب أطْلَع الله نبيَّه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه .. فحدث ما حدّث به:
( ليكوننّ ) توكيد لا ريب فيه ..
( يستحلّون ) أي يجعلونه حلالا إمّا باعتقادهم فيكفرون، وإمّا بأفعالهم حتّى إنّ النّاظر لانتشارها وشيوعها ليظنّ أنّها حلال.
( يستحلون الحِرَ ): أي الفروج، ويقصد بذلك الزّنا .. ولم يستحلّوه فقط ؟ بل قنّنوا له قوانين لحماية أهله وناصريه !.
( وَالحَرِيرَ ): حتّى صار الرّجال هذه الأيّام أشبه بالنّساء ..
( وَالخَمْرَ ): في رواية أبي داود وابن ماجه: (( لَيَشْرَبَنَّ نَاس الْخَمْر يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اِسْمهَا )) فظهر ( السَّكَر )- بفتحتين - وهو نَقِيع التَّمْر إذا غَلِيَ بغير طبخ، و( الْجِعَة )- بكسر الجيم وتخفيف العين - وهي نبيذ الشّعير، و( السّكركة ) خمر الْحَبَشَة من الذُّرَة. وهذه التّسميات وإن كان فيها تلبيس على النّاس ولكنّها تخلو من التّلميع والمدح، أمّا اليوم فصاروا يسمّونها بالمشروبات الرّوحية ونحو ذلك.
( وَالمَعَازِفَ ): آلات العزف وآلات اللّهو..
هذا الحديث يضع حجرا في أفواه كلّ جاهل يتقوّل على الله فيبيح بعض أنواع الغناء، فإنّك تسمع الجاهل يقول: لا بأس بالغناء الشّعبيّ، وذاك يبيح الغناء الشّرقيّ، وذاك يبيح الغناء الأندلسيّ، بحجة أن الكلام فيه مباح !
وهذا كلّه زور من القول وبهتان، واستدراك على شريعة الرّحمان، فإنّ الغناء لم يحرّمه الله فقط من أجل ما يحويه من الكلام، ولكنّه حرّمه لسببين:
- من أجل المعازف، فقد روى الإمام أحمد عن عبدِ اللهِ بن عمروٍ رضي الله عنه عن النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى أُمَّتِي الخَمْرَ، وَالمَيْسِرَ، وَالمُزْرَ، والكُوبَةَ، والقَنِينَ )). [والمُزر: هو نوع من النّبيذ، والكوبة هي الطّبل، والقنين: آلة تشبه العود].
ولم يزل فقهاء الإسلام من المذاهب الأربعة يقولون: لو كسر المسلم آلةَ لهوٍ وعزَفٍ فلا ضمان عليه، لأنّ هذه الآلات لا قيمة لها في الشّرع.
- السّبب الثّاني: هو الكلام البذيء والّذي يدعو إلى الرّذيلة ونبذ الفضيلة، وينشر الشّرك بأنواعه بين أبناء الأمّة، حتّى حلّت عليهم كلّ غمّة، ولا يخلو نوعٌ من أنواع الغناء من ذلك.
حتّى ما يُسمّى بالغناء الشّعبي، ترى في كلماته الشّرك بالله تعالى، كالاستغاثة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم سائلين إيّاه ( الحُرمَ )، وسؤال الله بجاه النبيّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والصّلاة على النبيّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد الحديث عن الغرام والعشق وغير ذلك، حتّى إنّه عاد هذا الغناء والمخدّرات وجهين لعملة واحدة.
وأعود فأقول: حتّى لو فرضنا أنّ الكلام فيه مباح، فإنّه مصحوب بآلات الطّرب والمعازف والله حرّم المعازف ؟!
وما الوعيد الّذي جعله الله عزّ وجلّ لهؤلاء ؟
استمعوا إلى تتمّة الحديث السّابق، حيث قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ [أي جبل] فِي لَهْوٍ وَلَغْوٍ يَبِيتُونَ، فَيَضَعُ اللهُ عَلَيْهِمْ الجَبَلَ وَيَمْسَخُهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ )).
وهذا المسخ نوعان: حقيقيّ ومعنويّ.
أمّا الحقيقيّ: فقد وقع في بعض البلدان.
أمّا المعنويّ فقد عمّ وطمّ، إذ مُسِخ أكثر الناس قردةً وخنازيرً !
قردة: ومن خصائص القردة أنّها تقلّد، فصرنا اليوم نقلّد الغرب في كلّ شيء ..
خنازير: ومن خصائص الخنزير أنّه لا يغار على عرضه، فصار النّاس اليوم يسمعون أغاني الفجور والفسوق، والعشق والحبّ، ووصف جسد المرأة أمام زوجته وبناته وأخواته وأمّه ! فأين الرّجولة ؟! وأين المروءة والفحولة ؟!
ولقد روى ابن ماجه والطّبراني - واللّفظ له - بسند صحيح عن سهلِ بن سعْدٍ رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( سيَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مَسْخٌ، وَخَسْفٌ، وَقَذْفٌ )) قيل: ومتى ذلك يا رسول الله ؟! قَالَ: (( إِذَا ظَهَرَتِ المَعَازِفُ وَالقَيْنَاتُ )). والقينات هم: المغنّيات.
- الحديث الثاني: ما رواه الترمذي عن جابر بن عبد رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيد عبد الرّحمان بن عوف، فانطلق إلى ابنه إبراهيم فوجده يجود بنفسه، فأخذه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فوضعه في حجره، فبكى، فقال له عبد الرحمان بن عوف رضي الله عنه:" أتبكي يا رسول الله ؟ أو لم تكن نهيت عن البكاء ؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: (( لاَ، وَلَكِنْ نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ -وفي رواية-: صَوْتَانِ مَلْعُونَانِ: صَوْتُ مِزْمَارٍ عِنْدَ نِعْمَةٍ، وَصَوْتُ نِيَاحَةٍ عِنْدَ نِقْمَةٍ )).
أمّا آثار الصّحابة والتّابعين والأئمّة الأربعة في تحريم الغناء، فأكثر من أن تحصى:
- فقد جاء رجل إلى ابن عبّاس رضي الله عنه وسأله: ما تقول في الغناء ؟ أحلال هو أم حرام ؟ فقال ابن عبّاس رضي الله عنه: أرأيت الحقّ والباطل إذا جاءا يوم القيامة، فأين يكون الغناء ؟ قال الرّجل: يكون مع الباطل، قال ابن عبّاس: اِذهب فقد أفتيت نفسك.
إخوتي الكرام .. هذا جواب ابن عبّاس عن غناء تلك الأيّام، فما قولكم لو سمع غناء هذه الأيام ؟!
- أمّا أثر ابن مسعود رضي الله عنه، فهو من أعظم الكلام، حتّى شاع لدى النّاس أنّه من كلام المصطفى عليه الصّلاة والسّلام، وهو ليس كذلك، قال رضي الله عنه:" الغناء ينبتُ النِّفاقَ في القلب كما ينبت الماء الزّرع " [رواه ابن أبي الدنيا في"ذم الملاهي"].
وهذا التشبيه يدلّ على فقه الصحابة بأحوال القلوب، ومعرفتهم بأدوائها وأدويتها:
فهذا الغناء له ميزة دون سائر المعاصي، وهو أنّه: يلهي القلب، ويصدّه عن تدبّر كلام الله سبحانه وتعالى، فبمجرّد أن تسمعه تتذكر الدّنيا ! ويُهيِّج في المرء شهوات الغيّ المخبّأة في النفس ويحرّكها، ويبطّئه عن ذكر الله والقيام إلى الصّلاة، وهذه علامة المنافق !
ويقلّل الحياء ويذهب الرّجولة، فيصير المرء يرى المنكر معروفا والمعروف منكرا، فهو بين أمرين: إما أن يظهر ذلك فيكون فاجرا، أو يخالف ظاهره باطنه فيكون منافقا مذبذبا بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء !
ثمّ إنّ الغناء أساسه الكذب، وهذا من علامات النّفاق !
وإنّ أهل الغناء يُفسدون من حيث يظنّون أنّهم يصلحون، وهذه علامة المنافق كما تعلمون !
فما أصحّ قولَ ابن مسعود رضي الله عنه !
وقال الضحاك: الغناء مفسدة للقلب مسخطة للربّ.
عباد الله .. الدّعوة مفتوحة ..
لنتأمّل جميعا أحوال المغنّين والمحبّين للغناء وما هم عليه .. وحالَ أهل القرآن ومحبّيه وما هم عليه:{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} لماذا ؟
لأنّ حال أهل القرآن القنوت لله والخشوع،{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
أما حال أهل الغناء:
خرّوا على القرآن عند سمـاعـه *** صمّـاً وعميـانـاً ذوي إهمـال
وإذا تـلا القاري عليـهم سورة *** فأطـالهـا عَـدُّوه فـي الأثقـال
حـتّى إذا جـاء الغـناء لديهـم *** خشعت لـه الأصوات بالإجـلال
يـا أمّـةً لعبت بديـن نبيّـهـا *** كـتلاعب الصّبـيان في الأوحـال
وبعد الدّعوة إلى التّأمّل، فإنّني أدعوكم لمحاربة هذه الظّاهرة الشّنيعة لا لنزيلها، فإنّ الشّر لا يزول إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولكن للتّقليل منها، فمن كان باستطاعته إيصال الكلمات فعليه بالكلمات، ومن استطاع إيصال الورقات فعليه بالورقات، ومن استطاع إيصال الأشرطة المسموعات فعليه بها ..
والله نسأل أوّلا وآخرا الإخلاص والسّداد، والهدى والرّشاد، وأن يُجنّبنا سبل الغيّ والفساد إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.