ثمّ جاء نفي الرّيب عنه بالتحدّي:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}.
ثمّ جاء نفي الرّيب عنه بالردّ على الكافرين المعترضين، فقد طعنوا في القرآن بسبب ما وقع فيه من ضرب الأمثال، فجاءهم الجواب من الكبير المتعال:{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}.
المسألة الثّانية: بيان سبب النّزول.
للعلماء في سبب نزول هذه الآية قولان:
أ) قول ابن عبّاس وابن مسعود رضي الله عنهما قالا: لمّا ضرَب الله هذين المثلين للمنافقين - يعني قوله تبارك وتعالى:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً}، {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاء} الآيات - قال المنافقون: الله أعلى وأجلّ من أنْ يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله سبحانه:{إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} إلى قوله:{أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ}.
ب) قول قتادة رحمه الله: إنّ الله حين ذكر في كتابه الذّباب والعنكبوت، قال أهل الضّلالة: ما أراد الله من ذكر هذا ؟ فأنزل الله الآية.
والقول الأوّل هو الصّواب إن شاء الله؛ وذلك لثلاثة أمور:
الأوّل: لأنّه قول الصّحابة، وقولهم مقدّم على غيرهم.
الثّاني: لأنّ قول قتادة يُشعِر أنّ هذه الآية مكّية، وليس الأمر كذلك.
الثّالث: لأنّه مناسب ومرتبط بما قبلها، من ذكر المثلين: النّاري والمائيّ، بخلاف العنكبوت والذّباب، لم يسبق لهم ذكر.
من أجل ذلك اختاره ابن جرير الطّبري رحمه الله وغيره.
المسألة الثّالثة: شرح الألفاظ وبيان المعاني.
-( إنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا ): يقال (استحى) و(استحيى)، قال الأخفش رحمه الله:" استحى بياء واحدة لغة تميم، وبياءين لغة أهل الحجاز، وهو الأصل " [انظر " الصّحاح "، و" اللّسان "].
ومعنى الآية: إنّ الله تبارك وتعالى لا يستنكف ولا يمتنع أن يضرب أيّ مثلٍ كان، بأيِّ شيء كان، صغيرا أو كبيرا، فإنّ ذلك ليس من الأمور الّتي تنافي الكمال والجلال حتّى يستحيي الله منه.
-( مَثَلاً مَا ): تقول: أكرِم رجلا ما، أي: مطلقا أيّا كان، فكذلك قوله: ( مثلاً ما ) أي: مطلقا، صغيرا أو كبيرا، سواء كان:
-( بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ): قولان للعلماء:
أ) أي: فما دونها في الصّغر، كما تقول العرب: فلان جاهل بل فوق ذلك، أي: دون ذلك.
وقد ضرب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مثلا بما هو دون البعوضة وهو جناحها، فقد روى التّرمذي وابن ماجه عن سهلِ بنِ سعدٍ رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ )).
وفي الصّحيحين عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ )) قال: اقْرَءُوا:{فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}.
ب) المعنى: ما زاد عليها في الكبر، وهذا هو الظّاهر، لأنّه الأصل في معنى ( فوق ).
-( فَأمَّا الَّذِينَ آمَنُوا ): هم المتّقون الّذين بدأت السّورة بذكرهم، فآمنوا بالغيب، وأقاموا الصّلاة، وأنفقوا ممّا رزقهم الله، وآمنوا بما أنزل إليهم وما أنزل من قبلهم، وأيقنوا بالآخرة.
-( فَيَعْلَمُونَ ): وفي هذا إشارة إلى أنّ أعظم طريق للعلم والفهم هو الإيمان والعمل بما يقتضيه، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال من:29]، وقال سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28].
-( أَنَّهُ ): الهاء تعود على المثل.
-( الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ): أي: إنّ المؤمنين يعلمون أنّ الله عزّ وجلّ حقّ لا يقول غير الحقّ، ويوفّقهم الله تعالى لفهم أمثاله المضروبة في القرآن الكريم، كلٌّ بحسب علوّ كعبه في الإيمان، قال تعالى:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]، وقال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: من الآية21].
-( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً ): أي: إنّ الّذين كفروا لا يفقهون من أمثال الله شيئا، لخلوّ قلوبهم عن الإيمان، وعجز جوارحهم عن العمل الصّالح.
والنّتيجة أنّهم يُحجَب عنهم النّور، فلا يرون الأشياء على حقيقتها، فيتحيّرون ويعجبون .. بل يرون الباطل حقّا، والحقَّ باطلا، ويقولون: ماذا أراد الله من ضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء الحقيرة ؟ والإشارة بقولهم: ( بِهَذَا ) مفيدة للتّحقير، كقولهم:{أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء من:36].
وكما قال المولى تبارك وتعالى:{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النّور من: 40]؛ لذلك قال:
-( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ): أي: يزيد الكفّارَ ضلالا وحيرةً، والمؤمنين هُدىً وطمأنينة، كما قال سبحانه في موطن آخر:{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)} [التّوبة].
وجرت عادة القرآن الكريم على ذمّ الكثرة، ومدح القلّة، فلماذا قال هنا:{وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} ؟
ولأهل العلم جوابان:
أ) أنّ أهل الشّكر كثير، ولكنّ الّذين مدحهم الله عزّ وجلّ هم المبالغون في الشّكر، وهم قليل، كما في قوله:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ من:13]، وهذا ظاهر كلام الشّيخ طاهر بن عاشور رحمه الله.
ب) أنّ الكثرة إنّما تذمّ إذا كان الحديث عن الخلق جميعا، أمّا في مقام الحديث عن فريق من الكافرين، وفريق من المؤمنين، في حادثة خاصّة:
فتمدح الكثرة في جانب المؤمنين؛ لأنّ الله تعالى يهديهم حينها إلى الّتي هي أقوم، والّتي هي أرشد.
وتذمّ الكثرة الكاثرة في صفوف الكافرين؛ لأنّهم لم يهتدُوا بما صرّفه الله تعالى إليهم من الأمثال.
-( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقِينَ ): وفي هذا بيانٌ أنّ الفسق أعظم أسباب الضّلال والانحراف.
ومصداق ذلك ما رواه مسلم عن حذيْفَةَ رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقولُ: (( تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ:
عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ.
وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا[1] كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا )).
والفسق لغة: الخروج من الشّيء، وهو مأخوذ من قولهم: فسقت الحبّة من قشرها، أي: خرجت.
أمّا معناه شرعا: الخروج من طاعة الله عزّ وجلّ، فقد يقع على من خرج بكفر، وعلى من خرج بعصيان.
-( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ ): النّقض هو الحلّ، وإفساد ما أُبْرِم.
-( عَهْدَ اللهِ ): هي عهود كثيرة:
أوّلها عهد الفطرة الّذي أخذه الله على بني آدم:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا}.
الثّاني: العهد الّذي أخذه الله تعالى منهم عن طريق رسله، فقد أقرّوا به، والتزموا الطّاعة والمتابعة، ثمّ كفروا فنقضوه، قال تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60]، وفي سورة البقرة آيات كثيرة تذكّرهم بالميثاق والعهود.
الثّالث: العهد الّذي أخذه عليهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنقضوه مرارا؛ لذلك قال عزّ وجلّ:{إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ}.
-( مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ): الميثاق هو: العهد المؤكّد باليمين، على وزن ( مفعال ) من الوثاقة والمعاهدة، وهي الشدّة في العقد والرّبط، والجمع المواثيق.
-( وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ): قيل: هي الرّحم والقرابة.
والصّواب -والله أعلم-: أنّ المراد أعمّ من ذلك، فكلّ ما أمر الله بوصْله وفعلِه فقطعوه يدخل في ذلك، كوصل روابط الأخوّة، وخاصّة أنّ من شِيمِ اليهود وخصالهم البارزة: النّميمة والوقيعة بين المؤمنين.
والرّحم والقرابة داخلتان في ذلك دخولا أولويّا.
وكثيرا ما يقرِن الله تبارك وتعالى بين عهده وصلة الرّحم والقرابة، فقال تعالى يصف فظاعة المشركين وشناعة فعلهم:{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة من: 8]، و(الإلّ) هو القرابة، و(الذمّة): العهد، وهما المذكوران أيضا في قوله عزّ وجلّ:{تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامِ}.[انظر "مجموع الفتاوى" (29/140)].
-( وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ ): يعملون فيها بالكفر والشّرك والمعاصي.
وكذلك كثيرا ما يقرن الله عزّ وجلّ بين الإفساد وقطع الأرحام كما في قوله تعالى:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمّد: 22].
ذلك لأنّ الكفر يجعل صاحبه لا يصل رحمه وقرابته، إمّا:
استهتارا بمنزلتها.
أو بمقتضى الهجر والبراء الّذي يحصُل بسبب الكفر.
وإذا انقطعت الأرحام، اختلطت الأنساب، وضاعت الحقوق، وحصل الفساد.
-( أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ ): حصر فيهم الخسران توكيدا لقوله تعالى قبل:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}، وليقابل مدحه للمؤمنين بقوله سبحانه وتعالى:{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
المسألة الثّالثة: إثبات صفة الحياء لله عزّ وجلّ.
مذهب أهل السنّة إثبات صفة الحياء لله عزّ وجلّ كما يليق بجلاله، لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَ}، وقوله تعالى:{وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَق} [الأحزاب: من الآية 53].
وروى أبو داود والتّرمذي عن سلمانَ الفارسِيِّ رضي الله عنه عن النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ )).
وروى البخاري ومسلم عن أبي واقدٍ اللّيثِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَالنَّاسُ مَعَهُ، إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَذَهَبَ وَاحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا، فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ )).
وروى أبو داود عن يعلى رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم رَأَى رَجُلًا يَغْتَسِلُ بِالْبَرَازِ بِلَا إِزَارٍ، فَصَعَدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (( إِنَّ اللَّهَ عزّ وجلّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ، يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ )).
وقد أوّل بعضهم صفة الحياء بأنّ المراد بها: ترك العقوبة، كما فعل الحليمي، والنّووي، وابن حجر رحمهم الله.
والصّواب إثباتها على الحقيقة دون تأويل، وأنّ ترك العقوبة من لوازم الحياء، قال المباركفوري رحمه الله:" حييّ: فعيل من الحياء، أي كثير الحياء، ووصفه تعالى بالحياء يُحمل على ما يليق به كسائر صفاته، نؤمن بها ولا نكيّفها ".
وقال خليل هرّاس رحمه الله في شرح " نونيّة ابن القيّم ":
" وحياؤه تعالى وصف يليق به، ليس كحياء المخلوقين الّذي هو تغيّر وانكسار يعتري الشّخص عند خوف ما يُعاب أو يُذمّ، بل هو ترك ما ليس يتناسب مع سعة رحمته، وكمال جوده، وكرمه، وعظيم عفوه، وحلمه، فالعبد يُجاهر بالمعصية مع أنّه أفقر شيء إليه، وأضعفه لديه، ويستعين بنعمته على معصيته، ولكنّ الربّ سبحانه مع كمال غناه، وتمام قدرته عليه، يستحي من هتك ستره وفضيحته، ثمّ بعد ذلك يعفو عنه ويغفر " اهـ
والله الموفّق لا ربّ سواه.