والسّفر المبيح للقصر هو ما تعارف عليه النّاس أنّه سفرٌ، وليس مقيّدا بمسافة معيّنة، أو بمدّة زمنيّة معيّنة، وهو قول ابن حزم وشيخَيْ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم رحمهم الله تعالى؛ فكلّ ما لم يتقيّد بالشّرع فمرجعه إلى العرف [انظر:"المحلّى" (5/10)، و"مجموع الفتاوى" (24/12-35)].
2) الخروج إلى منى، والوقوف بعرفة يوم عرفة، والذّهاب إلى المزدلفة:
فإنّ الحٌجّاج – ولو كانوا من أهل مكّة – يقصرون الصّلاة في هذه المقامات الثّلاثة، فهو خاصّ بالحجّاج، أمّا الخروج إلى هذه الأماكن في غير الحجّ لا يعدّ سفرا، ولا يُباح القصر فيها.
- أمّا حكم القصر:
فقد اختلف العلماء في حكم القصر في السّفر، والصّواب - إن شاء الله - أنّه واجب.
وهو قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله، والكوفيّين، والقاضي إسماعيل، وحمّاد بن أبي سليمان، ورواية عن مالك رحمه الله حكاها أشهب عنه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وأدلّة ذلك ما يلي:
1- ما رواه البخاري ومسلم عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: ( فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ ).
ووجه الدّلالة منه قولها: ( أُقِرّت ) أي: قرارها على ما كان عليه، وهو الفرض، فكما لا يجوز الزّيادة على صلاة الحضر، فكذلك لا يجوز الزّيادة على صلاة السّفر.
2- ما رواه مسلم عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: ( فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صلّى الله عليه وسلّم فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً ).
قالوا: وهذا صريح في الوجوب.
3- ما رواه مسلم عن يعلَى بنِ أُمَيَّةَ قال: قلت لعمرَ بنِ الخطّابِ رضي الله عنه:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا} فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ ؟ فقال رضي الله عنه: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: ((صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ)).
ووجه الدّلالة من قوله (( فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ ))، فهو:
أ) أمر، والأمر للوجوب.
ب) أنّه من القُبح ألاّ يقبل العبدُ صدقة ربّه عزّ وجلّ عليه؛ قال السّندي رحمه الله في "شرح سنن النّسائي" (3/117):
" قوله: (( فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ )) الأمر يقتضي وجوب القبول، وأيضا العبد فقير، فإعراضه عن صدقة ربّه يكون منه قبيحا، ويكون من قبيل:{أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} وفي ردّ صدقة أحد عليه من التأذّي عادة ما لا يخفى، فهذه من أمارات الوجوب فتأمّل، والله تعالى أعلم " اهـ.
ج) فعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقد روى البخاري ومسلم وأحمد عن ابن عمر رضي الله عنه قال:" إِنِّي صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فِي السَّفَرِ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ، وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ، وَصَحِبْتُ عُمَرَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ، ثُمَّ صَحِبْتُ عُثْمَانَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ ".
د) ما رواه أحمد والطّحاوي وابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله عنه قال:" إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ ".
وفعله صلّى الله عليه وسلّم هذا يبيّن لنا قوله: (( صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي )).
هـ) لذلك شدّد ابن عمر رضي الله عنهما في قوله بوجوب القصر في الصّلاة، فقد روى السّرّاج في "مسنده" (12/122-123) بإسنادين صحيحين قال:" صَلاَةُ المُسَافِرِ رَكْعَتَانِ، مَنْ خَالَفَ السُنَّةَ كَفَرَ ". [صحّحه الألباني في " التّعقيب الحثيث " ص43].
هذا إذا صلّى في جماعة كلّهم مسافرون، أو صلّى المسافر منفردا، أمّا لو صلّى خلف المقيم، فإنّه يُتمّ.
والله تعالى أعلى وأعلم، وأعزّ وأكرم.