- وطائفة حصرت التّوحيد في الدّعوة إلى الإيمان بوجود الله ! وأنّه خالق كلّ شيء ! فيتخرّجون في الجامعات، ويصنّفون المصنّفات ليصِلوا إلى إيمان أبي جهل، الّذي كان يُقرّ بأنّ الله عزّ وجلّ هو الخالق الرّازق المدبّر، ولكنّ الله حرّم عليه الجنّة؛ لأنّه جحد توحيد العبادة والألوهيّة، حتّى أشرك بالله ربّ البريّة، وقد بينّا ذلك فيما سبق.
- وفرقة انحرفت عن منهج الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فرأت في الاهتمام بفقه الواقع هو الحقّ، ثمّ كان الواقع أنّهم: لا الإسلامَ نصروا، ولا الكفر كسروا.
- وفرقة يلهج لسانهُا بضرورة التّركيز على الدّعوة إلى التّوحيد، ولكنّك إذا نظرت إلى واقعهم وحالهم، رأيتهم لا التّوحيد نشروا، ولا الشّرك دحروا. والعجيب أنّهم حصروا الدّعاة إلى التّوحيد فيمن ردّد هذه الكلمة في خطاباته، وعَنْوَنَ بها محاضراته، ولا يهمّ بعد ذلك أن لا يتحدّث عن توحيد الله !
إلى هؤلاء جميعهم، نسرد عليهم هذه الآيات البيّنات، والأحاديث النيّرات، لعلّنا ننفض ما علق بنا من غبار الكسل، ونُزِيلَ ما وضع في طريقنا من أشواك الجدل.
ونذكّر أمّة الإسلام بأنّ التّوحيد الّذي جاءت به الرّسل، وأنزلت من أجله الكتب، وانقسم النّاس من أجله على مؤمنين وكفّار، وقام من أجله سوق الجنّة وسوق النّار: هو إفراد الله بالعبادة، ونبذ ما سواه، لا مجرّد الإقرار بربوبيّته، قال الله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]، هذا التّوحيد هو الّذي ثبتت في حقّه هذه الفضائل، منها:
1- الفضل الأوّل: توحيد الله هو أوّل أمر وأوّل نهي في القرآن الكريم، وقد سبق ذكر ذلك.
2-الفضل الثّاني: أنّ التّوحيد هو أوّل ما يبدأ به الرّسل دعوتهم لأقوامهم، قال عزّ وجلّ:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النّحل:من 36]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]،{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59]،{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف:65]، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه} [الأعراف:من 73]، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:من 85]، وغير ذلك من الآيات.
وروى البخاري عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رضي الله عنه إِلَى نَحْوِ أَهْلِ الْيَمَنِ، قَالَ لَهُ:
(( إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ تعالى، فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا صَلَّوْا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ )).
3- الفضل الثّالث: جعل الله تعالى أجلّ الشهادات شهادة التوحيد:
فقال سبحانه:{شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
فالموحّد الذي يحارب الشّرك وأهله بمختلف صوره، هو يشهد بما شهد الله لنفسه، ويؤكّد هذه الشّهادة. أمّا الّذي استهان بالشّرك وخطره فقد شهد زورا، لذلك سمّى الله الشّرك زورا فقال سبحانه:{ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحجّ: 30-31].
4 - الفضل الرّابع:آخر ما تدعو إليه هو التّوحيد:
وكما أنّ الأمر بالتّوحيد والّنهي عن الشّرك كان أوّل واجب، فاعلم أنّه كان آخر ما يختم الأنبياء به حياتهم، وهاهي وصيّة الأنبياء عند موتهم، قال تعالى:{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.
وهذا نبيّ الله نوح عليه السّلام، يودّع ولده وهو يوصيه، لا برعي الأبقار، وغرس الأشجار، والحرص على الدّرهم والدّينار، ولكنّه يوصيه بكلمة النّجاة من النّار..
روى الإمام أحمد عن عبدِ اللهِ بنِ عمْرٍو رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( إِنَّ نَبِيَّ اللهِ نُوحًا عليه السّلام لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِابْنِهِ: إِنِّي قَاصٌّ عَلَيْكَ الْوَصِيَّةَ: آمُرُكَ بِاثْنَتَيْنِ وَأَنْهَاكَ عَنْ اثْنَتَيْنِ:
آمُرُكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فِي كِفَّةٍ رَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً قَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
وَسُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، فَإِنَّهَا صَلَاةُ كُلِّ شَيْءٍ، وَبِهَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ.
وَأَنْهَاكَ عَنْ الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ )).
وهذا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يودّع هذه الحياة:" طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: (( لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ )) يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا " [رواه البخاري].
5- الفضل الخامس: إنّ الله أمر بتوحيده من المهد إلى اللّحد:
فأوّل ما يولد المولود يقرع آذانه توحيد الله، والاستعاذة بمولاه لا شريك له، فقد جاء في السنّة ما يرغّب في رقية المولود الرّقى الشّرعية[1]، كما يخرج الموحد من الدّنيا بكلمة التوحيد، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن معاذِ بن جَبَلٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ )).
6- الفضل السّادس: آية الكرسيّ أعظم آية في كتاب الله تعالى:
فلا تجد فيها إلاّ توحيدَ الله في ربوبيّته، وألوهيّته، وأسمائه وصفاته، روى مسلم عن أبيِّ بنِ كعبٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ ؟)) قال: قلت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قال: (( يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ ؟)) قال: قلت:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، قال: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وقال: (( وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ )).
فليفرح أهل السنّة الّذين فقهوا ما فقهه أبيّ بن كعب رضي الله عنه، وليهنكم العلم يا أهل السنّة {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:5].
7- الفضل السّابع: سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن، وما فيها إلاّ توحيد الله:
روى البخاري عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ، جَاءَ إِلَى رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فقال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ )).
وروى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: (( كَانَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ افْتَتَحَ بِـ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً أُخْرَى مَعَهَا، وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ لَا تَرَى أَنَّهَا تُجْزِئُكَ حَتَّى تَقْرَأَ بِأُخْرَى، فَإِمَّا تَقْرَأُ بِهَا وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى، فَقَالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِهَا إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ !
فَلَمَّا أَتَاهُمْ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم، أَخْبَرُوهُ الخَبَرَ، فَقَالَ: (( يَا فُلَانُ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ ؟ وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ؟ )) فقال: إِنِّي أُحِبُّهَا. فقال صلّى الله عليه وسلّم: (( حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ )).
8- الفضل الثّامن: التّوحيد سبب لتفريج الكروب:
فقد روى النّسائيّ عن سعد بن أبي وقّاص أَنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا نَزَلَ بِرَجُلٍ مِنْكُمْ كَرْبٌ أَوْ بَلاَءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا دَعَا بِهِ فَفُرِّجَ عَنْهُ ؟ دُعَاءُ ذِي النُّونِ:{لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: من الآية87].
وفي صحيح البخاري عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: كَانَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَدْعُو عِنْدَ الْكَرْبِ يَقُولُ: (( لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ )).
وروى النّسائيّ في "السّنن الكبرى" عن عليّ رضي الله عنه أَنَّ النَبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( كَلِمَاتُ الفَرَجِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ الحَلِيمُ الكَرِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ العَلِيُّ العَظِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمُ )) [" صحيح الجامع " (4571)].
9- الفضل التّاسع: التّوحيد سبب لمغفرة الذّنوب:
قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: من الآية48].
وفي الحديث الّذي رواه التّرمذي عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( قَالَ الله تبارك وتعالى: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي. يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي. يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً )).
وروى الترمذي وابن ماجه والإمام أحمد عن عبدِ اللهِ بنِ عمْرِو بنِ العاصِ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ:
أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا ؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ.
فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ.
فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ.
فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا ( أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ) فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ.
فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ ؟ فقال: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ.
قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ، وَالْبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ، وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ، فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ )).
فالله حرّم جسد هذا الموحّد على النّار لأنّه أتاه بقلب موحّد سليم؛ لذلك روى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم وَمُعاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ، قال:
(( يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ))، قال: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. قال:
(( يَا مُعَاذُ ))، قال: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ -ثَلاَثًا- قال:
(( مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ )).
قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا !؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذًا يَتَّكِلُوا )) وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا.
لذلك فإنّ:
10- الفضل العاشر: التوحيد سببٌ لنيل شفاعة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم:
فالشّفاعة خاصّة بمن مات لا يشرك بالله تعالى شيئا، ولو دخل النّار أحقابا. والمحروم منها من مات متلبّسا بشيء من الشّرك {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: من الآية72].
روى البخاري عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قال رسولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ )).
ويومئذ تبدأ الشّفاعة: روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ ! فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدْ اسْوَدُّوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي جَانِبِ السَّيْلِ )) قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: عندئذ:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2].
11- الفضل الحادي عشر: جعله الله حقّه على العبيد:
ففي الصّحيحين عن معاذِ بنِ جبلٍ رضي الله عنه قال: بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا أَخِرَةُ الرَّحْلِ فقال:
(( يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ )) قلت: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قال: (( يَا مُعَاذُ ))، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثمّ قال: (( يَا مُعَاذُ ))، قلت: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. قال:
(( هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ ؟)) قلت: اللهُ ورسولُهُ أَعْلَمُ. قال: (( حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا )).
ثُمَّ سَارَ سَاعَة،ً ثُمَّ قَالَ: (( يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ ))، قلت: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، فقال: (( هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ إِذَا فَعَلُوهُ ؟)) قلت: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قال: (( حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ )).
وفي المقابل فإنّ على المؤمن أن يحذر الوقوع في شيء ينقض معنى هذه الشّهادة العظيمة، وذلك ما سيأتي بيانه إن شاء الله لاحقا.