وهناك أقوال داخل هذه المذاهب تحرّم القصر في سفر النّزهة.
["الإنصاف" (2/315)، و"المعني" (2/35)، و"كشاف القناع" (1/505) للبهوتي، و"إعانة الطّالبين" (2/96، و236)، و"الإقناع للشّربيني" (1/88)، و"مغني المحتاج"(1/272)، و"أحكام القرآن " لابن العربيّ (1/488)، و"حاشية العدويّ"].
واستدلّوا:
1- بمقصد شرعيّ، وهو قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: من الآية2]، وما كان الله ليفتح باب إعانة لعاص.
2- وبقوله سبحانه:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: من الآية173]، ففسّروا (العادي) بالمعتدي العاصي، و(الباغي) بمن خرج على الحاكم !
فقالوا: ( الرّخص لا تُناط بالمعاصي ).
قال البهوتي:" ولا يترخّص في سفر معصية بقصر، ولا فطر، ولا أكل ميتة، لأنّها رخص، والرّخص لا تُناط بالمعاصي، فإن خاف المسافر سفر معصية على نفسه إن لم يأكل الميتة، قيل له: تب وكل، لتمكّنه من التّوبة كلّ وقت ".
القول الثّاني: هو للثّوري، وأبي حنيفة، وداود الظّاهريّ رحمهم الله.
فالسّفر لديهم الّذي يبيح القصر هو مطلق السّفر، مباحا كان أو محرّما، حتّى لو خرج لقطع الطّريق وإخافة السّبيل، وحجّتهم أنّ القصر فرض.
وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيّم رحمهما الله.
وقد ذكر المرداوي رحمه الله في " الإنصاف " عن ابن عقيل وشيخ الإسلام جواز القصر في سفر المعصية.
وردّوا على أدلّة الجمهور بما يلي:
- أمّا استدلالهم بآية: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (24/112):
" وأمّا قولهم: إنّ هذا إعانة على المعصية، فغلط، لأنّ المسافر مأمور بأنْ يُصَلِّي ركعتين كما هو مأمور أن يصلّي بالتيمّم إذا عدم الماء في السّفر المحرّم، فعليه أن يتيمّم ويصلّي ... وكذلك صومه في السّفر، ليس برّاً ولا مأمورا به، فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثبت عنه أنّه قال: (( لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ )) .. ولو أراد أن يتطوّع على الرّاحلة في السّفر المحرّم لم يُمنَع من ذلك، وإذا اشتبهت عليه القبلة أما كان يتحرّى ويصلّي ؟! ولو أُخِذت ثيابُه أما كان يصلّي عريانا ؟!".
- أمّا استدلالهم بقوله تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}، فالصّحيح أنّ الباغي هو الّذي يبتغي الميتة مع قدرته على التوصل إلى المذكّى، والعادي الّذي يتعدّى قدر الحاجة بأَكْلِها.
- وقد ردّ ابن تيمية رحمه الله على استدلالهم بآية الاضطرار كما في "مجموع الفتاوى" (24/111)، وابن القيّم كما في "مدارج السّالكين" (1/370)، وذكرا بأنّ الآية لا تتحدّث عن السّفر، بل العذر يلحق المقيم والمسافر.
الحاصل:
الصّحيح، أنّ العاصِي يُنكر عليه معصيته، ويوعَظ ويُذكّر، ولكنّه له أن يأخذ بالرّخص الواجبة، لأنّ الواجب لا يسقط بالمعصية.
والله أعلم.