فلم يجد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلاّ أن ينصرف إلى الطّائف.
إلى الطّائف ...
كانت ثاني المدائن الكبرى في الجزيرة العربيّة .. سمّيت بهذا الاسم لسُورٍ كان يطيف بها، وتبعد عن مكّة حوالي 78 كم. وكان اسمها (وجّ) نسبة لوادي وجّ الشّهير، وأرضها خصبة تكثر بها المزارع لأجل الأودية الكثيرة بها. وقد سكنها قديما العماليق، وساد فيها بنو ثقيف يوم انتصروا على بني عُدوان.
ولشهرة هذه المدينة فقد اقترنت بمكّة في كلام العرب، حتّى إذا قيل: القريتان، كان المقصود بهما مكّة والطّائف، قال تعالى:{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]. يقصدون الوليد بن المغيرة بمكّة، وحبيب بن عمرو بالطّائف.
قال عبد الله بن جعفر رضي الله عنه:" لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ خَرَجَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم إِلَى الطَّائِفِ مَاشِيًا ".
خرج صلّى الله عليه وسلّم من مكّة، وهو يعلم أنّه لن يستطيع دخولها بعد اليوم إلاّ بجوار وحماية .. ومن يُجير ويحمِي النّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم إلاّ الله ؟
فتراه صلّى الله عليه وسلّم يشقّ الأودية والجبال .. على قدميه الدّاميتين المتعبَتين .. بلا راحلة، فهو فقير لا يملك ثمنها.
ما كان يبحث إلاّ عن آذان صاغية، وقلوب واعية، وأيدٍ حانية تحمل هذا الدّين لتقدّمه إلى التّائهين والحائرين ..
جوع وعطش وسير باللّيل والنّهار ..
ذكر الطّبري في "تاريخه" (1/554)، وابن كثير في "البداية والنّهاية"(3/135)، وابن إسحاق في "سيرته" عن محمّد بن كعب القرظيّ،-وبعض ألفاظ الخبر عند أبي نعيم في "الدّلائل" عن عروة بن الزّبير- قال:
" لمّا انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الطّائف، عمَد إلى نفر من ثقيف، وهم يومئذٍ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومسعود بن عمرو بن عمير، وحبيب بن عمرو بن عمير.
فدعاهم إلى الله، وكلّمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه.
فقال أحدهم: أَسْرِقُ ثياب الكعبة إن كان الله بعثك بشيء قط ! [يقصد أنّه كما يستحيل أن أسرق كسوة الكعبة كذلك تستحيل بعثته]
وقال الآخر: أما وجد الله أحدا يرسله غيرَك ؟!
وقال الثّالث: والله لا أكلّمك كلمةً أبدا، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرا من أن أردّ عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلّمك.
فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف ".
قام ولهيب الحزن في كبده، فـ:" قال لهم: (( إِذَا فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ، فَاكْتُمُوا عَلَيَّ )).
كره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخشِي أن يبلغ هذا الرّفض القاطع، وهذا الردّ اللاّذع مكّة فيزدادوا جرأةً عليه.
ولكنّهم أذاعوا الخبر ..
قال عروة: وأفشوا ذلك، وأغرَوْا به سفهاءهم وعبيدَهم يسبّونه ويصيحون به، حتّى اجتمع عليه النّاس، واجتمعوا يستهزئون به صلّى الله عليه وسلّم ! وقعدوا له صفّين على طريقه ! فأخذوا بأيديهم الحجارة، فجعل لا يرفع رجله ولا يضعها إلاّ رضخوها بالحجارة.
وألجئوه إلى حائط – والحائط: البستان – كان لعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه.
فعمد إلى ظلّ حبلة من عنب [الحبلة هي ما يسمّيه العرب بالكرم]، فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف.
[ويذكر بعض أهل السّير أنّه صلّى الله عليه وسلّم دعا في هذا المقام بدعاء جميل مشهور على ألسنة النّاس، ولكنّه لا يصحّ، وهو قوله: اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي ... الخ].
فلمّا رأى ابنا ربيعة: عتبةُ وشيبةُ ما لقي، تحرّكت له رحمُهما، فدَعَوَا له غلاماً لهما نصرانيًّا، يقال له: عداس، فقالا له: خذ قَطْفًا من هذا العنب وضَعْه في ذلك الطّبق، ثمّ اذهب به إلى ذلك الرّجل، فقل له يأكل منه.
ففعل عداس، ثمّ أقبل به حتّى وضعه بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده قال:
(( بِسْمِ اللهِ )) ثمَّ أكل.
فنظر عداس إلى وجهه ثمّ قال: والله إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة !
فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( وَمِنْ أَهْلِ أَيِّ البِلاَدِ أَنْتَ يَا عَدَاسْ ؟ وَمَا دِينُكَ ؟ )).
قال: أنا نصرانيّ، وأنا رجل من أهل نِينَوى.
فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( أَمِنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى ؟ ))
قال له: وما يُدريك ما يونس بنُ متّى ؟
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : (( ذَاكَ أَخِي، كَانَ نَبِيًّا، وَأَنَا نَبِيٌّ )).
قال عداس: يا رسول الله ! أخبرني عن يونس بن متّى ؟ فلمّا أخبره أكبّ عداس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقبّل رأسه ويديه ورجليه.
فقال ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أمّا غلامك فقد أفسده عليك
فلمّا جاءهما عداس قالا له: ويلك يا عداس ! مالك تقبّل رأس هذا الرّجل ويديه وقدميه ؟
قال: يا سيّدي، ما في هذه الأرض خيرٌ من هذا الرّجل، لقد خبّرني بأمرٍ لا يعلمه إلا نبيّ.
فقالا: ويحك يا عداس ! لا يصرفنّك عن دينك، فإنّ دينَك خيرٌ من دينه.- وفي رواية: فضحكا، وقالا: لا يفتننّك عن نصرانيّتك، إنّه رجل يخدع.
من عبر هذه الحادثة:
1-لا بدّ للدّعاة من الخروج للنّاس لتبليغ كلمة الله عزّ وجلّ.
2-كان الله عزّ وجلّ يعلم ردّ وجواب أهل الطّائف، ومع ذلك أمرهم بتبليغهم كلمة الله تعالى، وذلك: رجاء انتفاعهم، وإقامة للحجّة عليهم، واعتذارا إلى الله يوم القيامة، كما قال صالحو القرية:{مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: من الآية 164].
3-أنّ الدّعوة مقرونة بالبلاء، والتّبليغ مقرون بالشّقاء، والأجر على قدر المشقّة.
4-فضل العلم: فإنّ عداس النّصرانيّ أسلم بمجرّد أن أيقن بأنّ هناك أمورا لا يعلمها إلاّ نبيّ.
الحاصل: بعد موقف كفرة ثقيف، ما كان أمام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من خِيارٍ إلاّ أن عزم على الانتقال من الطّائف، ولكن إلى أين ؟
إنّه عزم على الرّجوع إلى مكّة.
ولكن كيف سيعود إلى مكّة، وليس بها أبو طالب ولا خديجة ؟!
هذا ما سنراه لاحقا إن شاء الله.