وقد تدبّرتها، فوجدتها اشتملت على نداءين بليغين، وتوجيهين عظيمين، إن أخذنا بهما فلن تدوم فتنة: نداءان أحدهما للحكاّم والسّلاطين، والآخر للشّعوب والمحكومين.
نداء للرعيّة:
" ... بلاد الإسلام بلادٌ محسُودة، وبالأذى مقصودة، لا تسلم من تِرة مُعَادٍ وحاقد، واشتِطاط مناوِئٍ وحاسد .. وأعداء الأمّة لا يأْلُون إقداما، ولا ينكصون إحجاما، في التّخطيط لإشاعة الفوْضَى، وإثارة البلبلة، وإذاعة السّوء، وزرع بذور الفُرقة والفِتنة في أرض الإسلام.
ليُحكِموا السّيطرة، ويَفرِضوا الهيمنة، ولتكون أرض الإسلام بلادا متناثرة، وطوائف متناحرة وأحزابا متصارعة، يسهُل تطويعها، ويمكن تعويقها ...
وللعدوّ صولة، وللمتربّص جولة، ولكنّها صوله آفلة، وجولة خاسرة.
وأهل الإسلام على وعيٍ بالعواقب، وإدراك للمآلات، وهم قادرون بحول الله وقوّته، ثمّ بتضافرهم وتناصرهم وتحاورهم على حماية أوطانهم، وإدراة شؤونهم، ومعالجة مشكلاتهم، دون إملاءات الحاقدين، وتدخّلات الشّامتين، وخطابات الشّانئين.
ولن تُحمَى الأوطان إلاّ برجالها، ولن تُصان الذِّمام إلاّ بأهلها.
أيّها المسلمون .. لا عَيْش لمن يضاجع الخوف، ولا حياة لمن يبدّده الهلع، ولا قرار لمن يلُفّه الفزع.
والأمن نعمة عُظمى، ومنّة كُبرى ... قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا )).
فلا حياة ولا بقاء، ولا رفعة ولا بناء، ولا قوّة ولا نَمَاء، إلاّ في أرض السِّلم والأمن: سنّة ماضية، وحقيقة قاضية.
فاحْفَظوا أمنَكم ووَحدتَكم، وصُونُوا أوطانكم واستقرارَكم، وابتعِدوا عن مُلتَطَم الغوائل، وآثِروا السّلامة عند الفتن والنّوازل.
واسلكوا المسالك الرّشيدة، وقفوا المواقف السّديدة، وراعُوا المصالِح، وانظُروا في المناجِح، ووازِنوا بين حسنات ما يُدفع، وسيِّئات ما يقع ويُتوقّع، وارتَادُوا الأنفع والأنجع.
واحقِنُوا الدّماء في عهدها، وإِدُوا الفتنة في مهدها، فالفتنة راتِعة، تطأ في خطامها: من أخذ به وطئته، ومن فتح بابها صرعته، ومن أدار رحاها أهلكته.
نداء للحكّام:
أيّها المسلمون .. لا عِزّ إلاّ بالشّريعة، لا عِزّ إلاّ بالشّريعة، لا عِزّ إلاّ بالشّريعة.
ولا قِوام للشّريعة إلاّ بالمُلك والسّلطان .. ولا قِوام للملك والسُلطان إلاّ بالرّجال .. ولا قوام للرّجال إلاّ بالمال .. ولا مال إلاّ بالاستثمار والاتِّجار .. ولا تجارة إلاّ بالأمن ..
ولا أمنَ إلاّ بالعَدْل .. ولا أمنَ إلاّ بالعَدْل .. ولا أمنَ إلاّ بالعَدْل ..
العدل هو الميزان المنصُوب بين الخليقة، وليس شيء أسرعَ في خراب الأرض، ولا أفسَد لضمائر الخلق من الظُّلم والعُدوان .. ولا يكون العُمران حيث يظهر الطّغيان ..
لأنّ الظّلم جالب الإِحن، ومُسبّب المِحن، والجَور مسلبةٌ للنِّعم، مجلبة للنِّقم ..
وقد قيل: الأمن أهنأُ عيش، والعدل أقوى جيش، ومن فعل ما شاء، لقيَ ما ساء .. ومن أصلح فاسِده، أهلك حاسِده ..
ومتى كانت المصالح فوق المبادئ، والأطماع فوق القِيم، والقسوة قبل الرّحمة، ثارت الفتنة، وصار العمار خرابا، والأمن سرابا.
أيّها المسلمون ..
الأمن بالدِّين يبقى، والدّين بالأمن يَقوَى، ومن رام هُدًى في غير الإسلام ضلّ، ومن رام إصلاحا بغير الإسلام زلّ، ومن رام عِزّا في غير إسلام ذلّ، ومن رام أمنا من غير إسلام ضاع أمنُه واختلّ "اهـ.
فاللهمّ آمِنّا في أوطاننا، وآمن روعاتنا، واستُر عوراتنا، وعرِّفنا نعمَك بدوامها لا بزوالها، وقِنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وصلّ اللهمّ على محمّد وعلى آله وصحبه وسلِّم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.