-( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا ): كان الأمر بترك الفساد أمرا بالتّخلية، وجاء الأمر بالإيمان وهو أمر بالتّحلية، فهو من باب تقديم التّخلية على التّحلية، والتّصفية على التّربية، ونظائره كثيرة في القرآن الكريم كنطقنا بالشّهادة، وقوله تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: من الآية256].
( كَمَا آمَنَ النَّاسُ ): "ال" في (النّاس) عهدية، والمقصود: المؤمنون. أو تكون لبيان الحقيقة، فكأنّه يبيّن لهم أنّما النّاس هم المؤمنون فحسب، وغيرهم ليسوا كذلك {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف من:179].
-( قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ): قالوا ذلك فيما بينهم لا أمام الملأ، وإلاّ ما كانوا منافقين.
والسّفيه من السّفه، وهو في اللّغة الخفيف، تقول العرب: ثوب سفيه أي رقيق خفيف. ويطلق في اللّغة على الجاهل والأحمق والخفيف العقل، كما قال تعالى:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: من الآية140].
ويُطلق على الكفّار والمشركين كقوله تعالى:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: من الآية130].
ويطلق على المنافقين كما في هذه الآية.
ويطلق على من لا يُحسن التصرّف، كقوله تعالى:{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: من الآية5].
فجواب المنافقين لا يختلف عن جواب المشركين في كلّ زمان ومكان، فقوم نوح عليه السّلام قالوا:{وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: من الآية27]، وكذلك قال مشركو مكّة:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: من الآية11].
فردّ الله مقولتهم، وفضح ما يتخافتون به بقوله:{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ}، وأكّد وحصر السّفاهة فيهم، لأنّ معنى السّفيه عكس الرّشيد، وهذه الصفة منطبقة عليهم؛ لأنّهم جهلوا بمصالح أنفسهم، فاستبدلوا الإيمان بالكفر والنفاق، لذلك قال تعالى:
-( وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ ): وهذا من تمام جهلهم، وهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل.
ونلحظ أنّه عزّ وجلّ نفى هنا العلمَ دون الشّعور؛ لأنّ السّفه قد يبدو ويظهر لصاحبه بأقلّ التفاتة إلى أحواله وتصرّفاته، بخلاف مخادعة النّفس عند إرادة مخادعة النّاس، ومن حصول الإفساد عند إرادة الإصلاح، فإنّهم لتمادي غفلتهم كالّذي لا حسّ له.
ومن صفاتهم أيضا:
د) الاستهزاء بآيات الله عزّ وجلّ وبالمؤمنين، ونقد كلّ عملٍ إيجابيّ:
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)} .
-( قَالُوا آمَنَّا ): أي إذا اجتمعوا بالمؤمنين أظهروا أنهم على طريقتهم وأنهم معهم.
وقولهم: ( آمنّا ) جملة فعلية تفيد التجدّد، وعدم الثّبوت.
-( وَإِذَا خَلَوْا إِلَى ): تعدى الفعل بـ "إلى" وحقّه أن يتعدّى بالباء، فيقال: خلوت به لا خلوت إليه، وإنّما عُدِّي بـ(إلى) لتضمّنه معنى ذهبوا وانصرفوا.
-( شَيَاطِينِهِمْ ): رؤساءهم في الكفر الّذين يدبّرون الشرّ، وسمّاهم شياطين لأنّهم يوحون إليهم بكلام يجري في الإنسان مجرى الدّم فيصدّه عن السّبيل، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام: من الآية112].
-( قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ ): أي إنّا معكم في الحقيقة، وهنا نلحظُ أنّهم أتوا بالجملة الاسمية الدالّة على الثّبوت، لأنّ صفة الكفر ثابتة فيهم.
-( إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ): الاستهزاء والهَزْء هو السّخرية، أي: ما أظهروا الإيمان إلاّ وهم ساخِرون من المؤمنين.
وحالهم ظلمات بعضهم فوق بعض؛ فإنّ السّخرية من المؤمنين ومن تعاليم ربّ العالمين وحده ناقضٌ من نواقض الإيمان، فكيف إذا صدر ذلك من منافق ؟ لا جرم أنّ الله عزّ وجلّ قال في حقّهم:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النّساء:145].
- ومن مظاهر سخريتهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه:
ما رواه الطّبريّ عن ابن عمر رضي الله عنه: أنّ رجلا من المنافقين قال لعوف بن مالك رضي الله عنه في غزوة تبوك: ما لقُرَّائنا هؤلاء أرغبُنا بطونًا وأكذبُنا ألسنةً، وأجبُننا عند اللّقاء ؟! فقال له عوف رضي الله عنه: كذبت، ولكنّك منافق ! لأخبرنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم !
فذهب عوف رضي الله عنه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، قال تعالى في سورة التّوبة:{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)}..
قال ابن عمر رضي الله عنه: فنظرت إليه متعلِّقًا بحَقَب ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تنكبُهُ الحجارة ، يقول: إنّما كنّا نخوض ونلعب ! فيقول له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ؟ )) ما يزيده.
- ومن مظاهر سخرية المنافقين من المؤمنين وشعائر الدّين:
ما رواه البخاري ومسلم عن أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قال: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ -وهو عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه – فَقَالُوا: مُرَائِي ! وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ، فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا ! فَنَزَلَتْ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: الآية79].
وإنّ الله يغار أن تُنتهكَ محارمه، ويسخَرَ من أوليائه:
-( اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ): وهذا جزاء لهم على استهزائهم بعباده، والجزاء من جنس العمل.
واستهزاء الله بهم يكون في الدنيا والآخرة .
• أمّا في الدّنيا:
1- فبعصمة دماءهم وأموالهم في الظّاهر، فيستدرجهم للبقاء على النّفاق !والعياذ بالله.
2- وكلّما أحدثوا ذنبا أحدث الله لهم نعمة، حتّى ظنوا أنّهم على الحقّ !
3- إنزال آيات عدّة تفضحهم وتذكر صفاتهم، وربّما تلوْها هم أنفسهم، ويسمعونها في بيوتهم !
4- وكذلك نرى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يستهزئ بهم، فلا يذكرهم إلاّ على سبيل الذمّ، كحديث مسلم عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ: يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا )).
• أمّا في الآخرة:
- فإنّه تعالى يعطيهم مع المؤمنين نورًا ظاهرًا، فإذا مشى المؤمنون بنورهم طفئ نور المنافقين، وبقوا في الظلمة بعد النّور متحيّرين، ويُضرب بينهم بسور له باب من جنس حالهم، له ظاهر يخالف الباطن:
قال تعالى:{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)}.
فما أعظم اليأس بعد الطمع !.
- ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه في حديث طويل، فيه قوله صلّى الله عليه وسلّم:
(( فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا )).
• ويقال في استهزاء الله هنا ما قيل في قوله تعالى:{يُخَادِعُونَ اللهَ}.
-( وَيَمُدُّهُمْ ): يملي لهم، أي: كلّما أذنبوا زادهم الله من النِّعَم.
والغالب أن يقال: أمدّ يُمِدُّ في الخير، ومدّ يمدّ في الشّر، قال تعالى:{بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125]، وقال:{وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:12]، وقال تعالى:{وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133)}.
-( فِي طُغْيَانِهِمْ ): أي في كفرهم. وأصل الطّغيان هو مجاوزة الحدّ ومنه قوله تعالى:{إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11]، ومنه قوله تعالى عن فرعون:{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طـه:24]، ولمّا كان النّفاق أشدَّ سمّاه طغيانا ولم يقل: طَغْيا.
-( يَعْمَهُونَ ): العمه: التحَيْر والتردُّد. والعمه يكون في القلب، والعمى يكون في البصر، والمعنى: حائرون مترددون، وهذا من استهزائه تعالى بهم.
ولمّا وصفهم الله عزّ وجلّ بالسّفه، ذكر ما يدلّ على ذلك، فقال:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) }
-( أُولَئِكَ ): أي: المنافقون الموصوفون بتلك الصّفات، وأشار إليهم بما يدلّ على بعدهم عن كلّ خير.
-( اِشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالهُدَى ): أي استبدلوا الكفر بالإيمان، وأخذوا الضّلالة ودفعوا ثمنها هدى وفي قوله:{اِشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ} استعارة.
-( فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ): بل خسروا فيها أعظم خسارة باتّباعهم الكفر بدل الإيمان.
-( وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ): في شراءهم الكفر بالإيمان، وخروجهم من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة.
ولترسيخ الحقائق في البال، كان لا بدّ من ذكر الأمثال، وهذا ما تأتي ببيانه الآيات التّالية.