- القول الأوّل: أنّ هذا وصف رابع للمتّقين، وهم كلّ من آمن بالغيب وأقام الصّلاة وأنفق ممّا رزقه الله، وأنّ ذلك لا ينفعه حتّى يؤمن بما أنزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وما أنزل على من قبله.
روى الطّبريّ بسند حسن عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال:" أي يصدِّقونك بما جئت به من الله جلّ وعزّ، وما جاء به مَنْ قبلك من المرسلين، لا يفرِّقون بينهم، ولا يجْحَدون ما جاءوهم به من عند ربّهم ".
- القول الثّاني: رواه الطّبريّ أيضا عن ابن عبّاس، وابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا:
" هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب "، واختاره مقاتل رحمه الله، كما قال ابن الجوزيّ رحمه الله.
ومقصود هؤلاء أنّ الله تعالى عطف على الّذين يؤمنون بالغيب طائفةً ثانية، وعليه فالمتّقون طائفتان:
الأولى: الّذين آمنوا بعد الشّرك، وهم العرب من أهل مكّة وغيرهم، ووصفهم بالّذين يؤمنون بالغيب؛ لأنّهم لم يكونوا يؤمنون به حين كانوا مشركين.
الثّانية: هم الّذين آمنوا بما أنزل من الكتب الإلهية قبل بعثة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ آمنوا بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهؤلاء هم مؤمنو أهل الكتاب.
وكانوا يومها: اليهود الّذين كانوا كثيرين في المدينة وما حولها في قريظة والنضير وخيبر مثل عبد الله بن سلام، وبعض النّصارى مثل دحية الكلبيّ وسلمان الفارسيّ وغيرهما.
والصّواب أنّه لا تعارض بين القولين؛ لأنّ من آمن بالغيب لا بدّ أن يؤمن بما أنزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وما أنزل على من قبله.
كما أنّ أهل الكتاب لا بدّ أن يؤمنوا بالغيب ويقيموا الصّلاة وينفقوا ممّا رزقهم الله؛ لأنّ ذلك ممّا أنزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
فذكر الله الإيمان بالرّسل والكتب لئلاّ يتعلّق أهل الكتاب بشيء، فهم قد آمنوا بالغيب، وصلّوا وأنفقوا، ولكنّ كثيرا منهم ما آمن بما أنزل على النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
وقد أثنى الله على من آمن من أهل الكتاب في غير موضع:
فقال تعالى:{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:199].
وقال عزّ وجلّ:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)} [القصص].
وقال تعالى:{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} [الأعراف].
وقال جلّ ذكره:{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)} [المائدة].
وفي الحديث الّذي رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
(( ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الْأَمَةُ فَيُعَلِّمُهَا فَيُحْسِنُ تَعْلِيمَهَا وَيُؤَدِّبُهَا فَيُحْسِنُ أَدَبَهَا ثُمَّ يُعْتِقُهَا فَيَتَزَوَّجُهَا فَلَهُ أَجْرَانِ.
وَمُؤْمِنُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَلَهُ أَجْرَانِ.
وَالْعَبْدُ الَّذِي يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ ))[1].
أمّا الّذين طُبِع على قلوبهم فإنّه سيأتي تقريعهم في قوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: من الآية91].
المسألة الثّامنة: هل يلزم أن يكون من آمن من أهل الكتاب أعظم أجرا من غيرهم ؟
لا يلزم ذلك، من وجوه:
- أنّ هذا التفضيل ليس من في كلّ شيء، إنّما هو في أجر الإيمان والصّبر عليه، بدليل قوله تعالى:{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص: من الآية54].
فمن آمن بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من غير أهل الكتاب لم يجد مشقّة في الصّبر على الإيمان بالرّسل، ولم يجد من الصّوارف ما يصبر من أجله، أمّا مؤمن أهل الكتاب فلا شكّ أنّه قد لقي من المشاقّ الكثير، فكتب له أجر الإيمان مرّتين.
- إنّما بشّر الله تعالى والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم أهل الكتاب بمضاعفة الأجر كيلا يظنّ الواحد منهم أنّ أجر إيمانه بالرّسول المبعوث إليه باطل.
- ممّا لا يختلف فيه اثنان أنّ العبرة بما يحصل للمسلم من يقين وتصديق واتّباع وقد يفوق ذلك أضعاف أضعاف ما يجده الكتابيّ، كما هو الشّأن في أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وسعد وسعيد وغيرهم رضي الله عنهم.
والله تعالى أعلم، وأعزّ وأكرم، وهو الهادي للّتي هي أقوم.
[1] قال القرطبيّ رحمه الله في تفسير سورة ( القصص ): " لمّا كان كلّ واحد من هؤلاء مخاطبا بأمرين من جهتين استحقّ كلّ واحد منهم أجرين:
- فالكتابيّ كان مخاطبا من جهة نبيّه، ثمّ إنّه خوطب من جهة نبيّنا، فأجابه واتّبعه، فله أجر الملّتين.
- وكذلك العبد، هو مأمور من جهة الله تعالى، ومن جهة سيّده.
- وربّ الأمة لمّا قام بما خوطب به من تربيته أمته وأدبها فقد أحياها إحياء التّربية، ثمّ إنّه لمّا أعتقها وتزوّجها أحياها إحياء الحرية الّتي ألحقها فيه بمنصبه، فقد قام بما أمر فيها.
فأجر كلّ واحد منهم أجرين، ثمّ إنّ كلّ واحد من الأجرين مضاعف في نفسه، الحسنة بعشر أمثالها فتتضاعف الأجور "اهـ.