نصّ الجواب:
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، أمّا بعد:
فقبل الإجابة عن هذا السّؤال فإنّه لا بدّ من بيان ما جاء في السّؤال نفسه:
أوّلا: المقامات اسم يُطلق على التّقطيعات والأوزان الموسيقيّة المستحدثة، ولها قوانينها وضوابطها، وإطلاق المقامات على التّغنّي بالقرآن فيه نظر، فإنّ القرآن لا يمكن ولا يحلّ أن يتشبّه بالغناء في أيّ وجه من الوجوه.
ثانيا: قولك: " مع العلم أنّ كبار القرّاء كالمنشاوي وغيره كانوا يقرؤون بهذه المقامات "، فهذا لا يَرِد، لأنّ الحقّ قد يخفى على الفاضل، وكما هو مقرّر لدى أهل العلم: أنّ نؤمن بجلالة الفضلاء، ولا نؤمن بعصمتهم، ومن أوسع أودية الباطل الغلوّ في الأفاضل. هذا إذا سلّمنا أنّ قراءة أمثال الشّيخ المنشاوي كانت على ذلك النّمط الّذي عُرِف به بعض القرّاء حتّى أخرجوا القرآن عن صيغته فضلا عن مهمّته وحكمة نزوله.
أمّا هل يجوز قراءة القرآن على ذلك النّمط الّذي ظهر به منذ أمد بمصر وسورية، وطفا اليوم على مجتمعنا، فإنّنا نقول:
حسبنا الله ونعم الوكيل !
فإنّه من التّلاعب بكلام الله الّذي قال فيه المولى: ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً ) [الإسراء:82]..
إنّه إهدار لحكمة نزول كلام الله تعالى الّذي وصفه قائلا: ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ) [الإسراء:9]..
وقع القرآن بأيدي هؤلاء المتلاعبين، وأقبل كثير من النّاس عليهم لاهثين، فلا جرم أنّه قد قلّ في الأمّة الخير، وكثر فيها الشرّ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
قال النّووي في "الرّوضة":
" والصّحيح أنّ الإفراط على الوجه المذكور حرام يفسق به القارئ، ويأثم المستمع، لأنه عدل به عن نهجه القويم، قال: وهذا مراد الشّافعي بالكراهة ".
فالّذي أمرنا وندبنا إلى تحسين الصّوت عند قراءة القرآن جعل لذلك التّحسين علامة، فقد روى ابن ماجه بسند صحيح عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: « إِنَّ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ، الَّذِي إِذَا سَمِعْتُمُوهُ يَقْرَأُ حَسِبْتُمُوهُ يَخْشَى اللَّهَ ».
وإنّ مخالفات هؤلاء القرّاء أضحت لا تحصى ولا تعدّ .. منها:
- إنزال القرآن على هذه المقامات !!
- تحريك بعضهم ليده بطريقة تضحِك الثّكلى فيضعها عن يمين فمه أو مقابله حتّى يتحكّم في سير الصّوت !!
- الإفراط في المدّ وفي إشباع الحركات، حتّى يتولّد من الفتحة ألف، ومن الضمّة واو، ومن الكسرة ياء، والإدغام في غير موضع الإدغام، وغير ذلك.
- صرف النّاس عن الاهتمام بالمقصود عند التّلاوة، ألا وهو التدبّر والفهم والتأمّل، فصاروا لا ينتظرون إلاّ مغامرة من المغامرات الصّوتية !!
- قول النّاس عند سماعه انظر إلى هذه: الطّلعة !! والحبْطة !! وكأنّ القرآن صار من الأغاني ..
- تقديم ما أخّره الله وتأخير ما قدّمه الله، فإنّ الإنسان يُعظّم بتقواه وعمله بالقرآن وإقامته لحدوده، لا بمجرّد حسن صوته، وتأمّل ما رواه الإمام مالك رحمه الله وغيره أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ لِأحدهم: ( إِنَّكَ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ، قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ .. وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ ).
لذلك نجد الصّحابة رضي الله عنهم كانوا يحرصون كلّ الحرص على الجمع بين حفظ القرآن وفهمه، فقد روى أحمد عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ زيد بن خالد الجهنيّ رضي الله عنه قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم عَشْرَ آيَاتٍ، فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، قَالُوا: فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ.
وروى الإمام مالك في " الموطّأ " بلاغا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه مَكَثَ عَلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثَمَانِيَ سِنِينَ يَتَعَلَّمُهَا.
فإن صحّ ذلك، فإنّما لفقهها، فلا يجاوز آية إلى غيرها دون فقه وفهم.
وأخرج الآجرّي في " حملة القرآن " عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " لا تنثروه نثر الدّقل، ولا تهذّوه هذّ الشّعر، قفوا عند عجائبه، وحرّكوا به القلوب، ولا يكون همّ أحدكم آخر السّورة ".
وذمّ الله الخوارج بسبب أنّهم يتلون كلام الله دون أن يصل إلى قلوبهم فيعقلوه، كما في الحديث المتّفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: « إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا أَوْ فِي عَقِبِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ ».
ولذلك أكّد العلماء على أنّ قراءة القرآن ينبغي أن تكون بالتدبّر والتفهّم، فهو المقصود الأعظم، والمطلوب الأهمّ، وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب، قال تعالى: ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِه ) [صّ:29] .
، قال النّووي في "شرح المهذّب":
" وصفة ذلك، أن يشغل قلبه بالتّفكير في معنى ما يلفظ به، فيعرف معنى كلّ آية ويتأمّل الأوامر والنّواهي، ويعتقد قبول ذلك، فإن كان ممّا قصّر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر، وإذا مرّ بآية رحمة استبشر وسأل، أو عذاب أشفق وتعوّذ، أو تنـزيه نزّه وعظّم، أو دعاء تضرّع وطلب، أخرج مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال:" صلّيت مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة، فافتتح البقرة فقرأها، ثم النّساء فقرأها، ثمّ آل عمران فقرأها، يقرأ مترسّلا، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوّذ تعوّذ ".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " مجموع الفتاوى " (13/332):
" ومن المعلوم أنّ كلّ كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرّد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك، وأيضا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فنّ من العلم كالطبّ والحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكلام الله الّذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم ؟..".
هذا ما تيسّر قوله في الإجابة عن هذا السّؤال، والله أعلم.