- كلمةٌ لمن يبكي على الأموال الضّائعة، والبطون الجائعة ..
- * وفي الوقت نفسِه: فإنّها كلمة لمن يُسَيَّر ويظنّ أنّه مُخَيَّر !
فيأتي البيوتَ من غير بابِها، ولا يضع الأشياء في نِصابِها ..
فالحذر ممّن يسعَى لفتنةٍ ستُضرَم نارُها، ويشتدّ أوارُها .. يبدو لك شيخا في الفهم وهو رضيع، ويدعوك إلى خريفٍ في ثوب " ربيع " !
فإنّ ثمّة أقواماً اتّخذوا من هذا الواقع المرّ، وتهاطل أمطار الأذى والضرّ، سوقاً يروّجون فيه دعوتَهم، ويعرضون فيه سلعتَهم ..
ورحِم الله من عصمه من أن يكون بوقاً للطّغاة، أو سوقاً للبغاة.
فإلى هؤلاء وهؤلاء .. حديثان عظيمان، من أحاديث النبيّ عليه أفضل الصّلاة والسّلام:
- · الحديث الأوّل:
ما جاء في الصّحيحين عنْ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه عنْ النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( سَتَكُونُ أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا )) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ ! فَمَا تَأْمُرُنَا ؟ قَالَ: (( تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ )).
وقال في رواية أنسٍ رضي الله عنه: (( فَإِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا، حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الحَوْضِ )).
أي: إنّكم ستُبتَلون بمن يحكُمكم، ويلي أمرَكم، ويأخذ حقوقَكم، ويسأثِر بها دونَكم، وهذا معنى ( الأثَرة ).
وأضحى كلام المتنبّي عن مصرَ يصدُق على كلّ بلدٍ عربيّ اليومَ:
( نَامَتْ نَوَاطِيرُ مِصْرَ عَنْ ثَعَالِبِهَا *** فَقَدْ بَشِمْنَ، وَمَا تَفْنَى العَنَاقِيدُ )
و( النّواطير ): جمع ناطور، وهو حافظُ المال والزّرع، وكنّى به في البيت عن السّادة.
وكنّى بـ( الثّعالب ) عن الأراذل الّذين يحملون لواء النّهب والخيانة والطّغيان، وأصلهم رعاءُ شاءٍ يتطاولون في البنيان.
فهو يقول: إنّ السّادةَ غفلوا عن الأراذل، وقد أكلوا حتّى ( بَشِمْن ) أي: حتّى تخِمُوا، فعاثوا في أموال النّاس ناهبين غاصبين.
والعجب، أنّه لا تفنَى العناقيد، وكنّى بـ( العناقيد ) عن الأموال، وهكذا الحال لمن تأمّله.
فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخبرنا بهذا الواقع، وأنّه ما له من دافع، والحلّ:
- إن كنت من أهل الحلّ والعقد، وله الجزر والمدّ، فيجب عليك الإصلاح والعمل، وتنفض عن نفسك الجبنَ والعجز والكسل.
- وإن كنت من غير أولئك، فعليك بالصّبر (( وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ )) [متّفق عليه].
وتأمّل - رحمك الله - آخر الحديث: (( حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الحَوْضِ ))، لماذا خصّ الحوضَ بالذّكر ؟
ذلك، لأنّه علم أنّ أمّته ستفترِق في هذه القضيّة ذاتِها شرَّ افتراق، ويسود فيها بسببها الخلاف والشّقاق: (( إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ ... لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ ! فَأَقُولُ إِنَّهُمْ مِنِّي ! فَيُقَالُ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ )) [رواه البخاري].
والصّبر إنّما يكون بالثّبات على الحقّ، والدّعوة للخلق، والعودة بالنّاس إلى رحاب الإيمان، وسبل الخير والإحسان، فحينها يصدُق علينا قول ربّنا سبحانه:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران من:120].
وتأمّل آخر الآية:{إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}، فهو محيطٌ بمن ظلم وطغى، واعتدى وبغى، وغصب وسلب، وخان ونهب.
- · الحديث الثّاني:
ما رواه مسلم عنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟)). قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فقالَ:
(( إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ )).
فثِقْ أنّه - إذا صبرتَ على الوصيّة النّبويّة - لن يضيعَ حقّك المهضوم، وأنّه لا بدّ أن ينتصر المظلوم، إن لم يكن في هذه الدّنيا، ففي الآخرة، يوم تخفّ الموازين، وتطيش الدّواوين.
فلا تحِد عن هذه السّبيل إلى المهلكة، ولا تستجب إلى دعاوى ( الفسبكة )، ومن استَلْهَم مواقفه من الشّبكة العنكبوتيّة، فليتذكّر أنّ أوهن البيوت بيت العنكبوت.
والحمد لله أوّلا وآخرا.