وكم غيّرت الأمّة وبدّلت !
والعجيب: أنّهم بعد كلّ ما أراهم الله من صدق أخباره، وعدل أحكامه، تجد الأمّة لا تعود إلى كتاب الله وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم !
فنتساءل: أهذه الأمّة مسحورة حتّى كبّلت أيديها ؟!
أهي بحاجة إلى راقٍ ليرقيها ؟!
والجواب: نعم، إنّه السّحر .. وأيّ سحر ؟ إنّه عشق وحبّ الدّنيا !
روى الإمام أحمد، وأبو داود عنْ ثوْبانَ مولى رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
(( يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا )).
فقال قائلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟! قالَ:
(( بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ )).
فقالَ قائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْوَهْنُ ؟ قالَ:
(( حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ )).
وصدق صلّى الله عليه وسلّم، فما من بليّة ولا رزيّة إلاّ وسببها حبّ الدّنيا الدنيّة.
فاسألوا تارك الصّلاة لم تركها ؟ واسألوا مانع الزّكاة لم منعها ؟ واسألوا السّارق لم سرق ؟ والزّاني لم زنى ؟ والمغتصب لم اغتصب ؟ والرّاشي لم رشى ؟ وآكل الرّبا لم أكل ؟ والجهاد لم عطل ؟
إنّه حبّ الدّنيا وكراهية الموت .. واستوينا مع بني إسرائيل في كلّ قديم وجديد، فحقّ علينا كلّ عقاب ووعيد، لأنّ من أبرز صفات اليهود والنّصارى البغاة:{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ}.
وإنّ عمّالكم أعمالكم، وكما تكونوا يولّ عليكم.
فتعالَوا نرْقِي أنفسَنا من سحر الدّنيا الّتي أسرتنا، وبحبّها قد أذلّتنا، لعلّ الله ينزل علينا سكينة من عنده، ويهدينا جميعاً إلى رُشده.
هذا هو العالم الّذي ينبغي أن نعيشه هذه الأيّام .. عالم ينظر إلى الدّنيا على أنّها بحقّ طيف زائل، ونعيم حائل.
تأمّلوا أمثال الدّنيا:{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
المثل الأوّل: قال تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآب} [آل عمران: 14].
فأخبر سبحانه أن هذا الّذى تراه عيناك من الزّينة الّتي أخذت بألباب العباد، إنّما هو تزيين لا حقيقة له، كالمرأة التي تضع المساحيق على وجهها فيأخذ بلبّك، وفي الحقيقة إنّما هو غطاء ساتر.
ثمّ أخبر سبحانه أنّ ذلك كلّه متاع الحياة الدّنيا، ومتاع الدّنيا مهما غلا فهو رخيص، ومهما شرف فهو خسيس.
ثمّ شوّق تعالى عباده إلى المتاع الدّائم الّذي لا يبيد، فقال:{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:15].
إذن .. فما سرّ هذه المتعة الّتي نجدها في متاعها ؟ وما هذه الفرحة التي تحويها مع أقراحها ؟
قال تعالى:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32].
لعبٌ تتمتّع به الأبدان، ولهو تلهو به النّفوس .. مجرّد نزوة عابرة، وصفقة خاسرة.
المثل الثّاني: روى مسلم عن جابِرٍ رضي الله عنهما أنّ رسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم مَرَّ بِالسُّوقِ ... فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ، فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ:
(( أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ ؟)).
فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ ؟ قالَ:
(( أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ ؟)).
قالُوا: وَاللهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ ؟! فقالَ صلّى الله عليه وسلّم:
(( فَوَاللهِ، لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ )) [الأسكّ: الصّغير أو مقطوع الأذنين].
فلم يقتصر على تمثيلها بالسّخلة الميتة، بل جعلها أهون على الله منها !
فإذا كان مثلُها عند الله أهونَ وأحقرَ من سخلةٍ ميتةٍ على أهلها، فمُحِبُّها وعاشقُها أهون على الله من تلك السّخلة !
وفى كتاب الزّهد للإمام أحمد أنّ عيسى عليه السّلام كان يقول:" بحقٍّ أقول لكم، إنّ أكلَ الخبز، وشُربَ الماء العذب، ونوماً على المزابل مع الكلاب، كثيرٌ لمن يريد أن يرثَ الفردوس ".
المثل الثّالث: ( الدّنيا قنطرة، فاعبروها ولا تعمروها ).
وهذا مثل صحيح غاية في الصحّة؛ فإنّ الحياة معبرٌ إلى الآخرة، والمهد هو أوّل القنطرة، واللّحد آخرها.
ولا بدّ من العبور .. فمن وقف يبني على القنطرة، ويزيّنها بأصناف الزّينة، فهو فى غاية الجهل والحمق !
روى أحمد عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنّ رسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم دَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ رضي الله عنه وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فقالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، لَوْ اتَّخَذْتَ فِرَاشًا أَوْثَرَ مِنْ هَذَا ؟ فقَالَ:
(( مَا لِي وَلِلدُّنْيَا ؟! مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا )).
فتأمّل حسن هذا المثل، ومطابقته للواقع: فإنّها فى خضرتها كشجرة، وفى سرعة انقضائها وقبضها شيئا فشيئا كالظلّ، والعبد مسافر إلى ربّه، والمسافر إذا رأى شجرة فى يوم صائف لا يحسن به أن يبنِيَ تحتها دارا، ولا يتّخذها قرارا، بل يستظلّ بها بقدر الحاجة، ومتى زاد على ذلك انقطع عن الرّفاق.
وعن مكحول قال: قال عيسى بن مريم عليه السّلام: يا معشر الحواريّين، أيّكم يستطيع أن يبني على موج البحر دارا ؟. قالوا: يا روح الله، ومن يقدر على ذلك ؟! فقال: إيّاكم والدّنيا، فلا تتّخذوها قرارا.
المثل الرّابع: شهوات الدنيا فى القلب كشهوات الأطعمة فى المعدة.
روى أحمد عن أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ رضي الله عنه عن رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ مَطْعَمَ ابْنِ آدَمَ جُعِلَ مَثَلًا لِلدُّنْيَا، وَإِنْ قَزَّحَهُ وَمَلَّحَهُ فَانْظُرُوا إِلَى مَا يَصِيرُ )).
وسوف يجد العبد عند الموت لشهوات الدّنيا في قلبه من الكراهة والنّتن والقبح، ما يجده للأطعمة اللّذيذة إذا أخرجها من بطنه !
وكما أنّ الأطعمة كلّما كانت ألذّ طعماً، وأكثر دسماً، وأكثر حلاوةً، كان رجيعُها أقذر.
فكذلك كلّ شهوة كانت في النّفس ألذّ وأقوى، فالتّأذّي بها عند الموت أشدّ، كما أن تفجع الإنسان بمحبوبه إذا فقده يقوى بقدر محبة المحبوب.
المثل الخامس: حسرات الاشتغال بنعيم الدّنيا عن الآخرة.
فمثل أهلها في غفلتهم مثل قوم ركبوا سفينة، فانتهت بهم إلى جزيرة، فأمرهم الملاّح بالخروج لقضاء الحاجة، وحذّرهم الإبطاء، وخوّفهم مرور السّفينة، فتفرّقوا في نواحي الجزيرة:
· فقضى بعضهم حاجته، وبادر إلى السّفينة، فصادف المكان خاليا، فأخذ أوسع الأماكن وألينَها.
· ووقف بعضهم فى الجزيرة ينظر إلى أزهارها وأنوارها العجيبة ويسمع نغمات طيورها، ويعجبه حسن أحجارها، ثّم حدّثته نفسه بفوت السّفينة وسرعة مرورها، وخطر ذهابها، فلم يصادف إلا مكانا ضيّقا، فجلس فيه.
· وأكبّ بعضهم على تلك الحجارة المستحسنة، والأزهار الفائقة، فحمل منها، فلمّا جاء لم يجد في السّفينة إلاّ مكانا ضعيفا، وزاده حمله ضيقا ! فصار محموله ثقلا عليه ووبالا، ثم ذبلت الأزهار وتغيّرت، وآذاه نتنها، وندم، فلم تنفعه النّدامة.
· وتولّج بعضهم فى تلك الرّياض، ونسي السّفينة، وأبعد في نزهته، فهو تارة يتناول من الثّمر، وتارة يشمّ تلك الأنوار، وتارة يعجب من حسن الأشجار، وهو على ذلك خائف من سبع يخرج عليه، غير منفكّ من شوك يتشبّث في ثيابه، ويدخل فى قدميه، أو غصن يجرح بدنه.
حتّى إنّ الملاّح نادى بالنّاس عند دفع السّفينة، فلم يبلغه صوته لاشتغاله بملاهيه !
فهذا مثل أهل الدّنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم موردهم وعاقبة أمرهم، وما أقبح بالعاقل أن تغرّه أحجار ونبات يصير هشيما !
المثل السّادس: اغترار النّاس بالدّنيا وضعف يقينهم في الآخرة.
مثلهم كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء، فنفِد زادهم، فلم يقدروا على المسير، وبقوا بالمفازة لا زاد ولا حمولة ! فأيقنوا بالهلكة.
فبينما هم كذلك، إذ خرج عليهم رجل فى حلّة يقطر رأسه، فقالوا: إنّ هذا قريب عهد بريف، وما جاءكم هذا إلاّ من قريب.
فقال: يا هؤلاء، أرأيتم إن هديتكم على ماء روّاه، ورياض خضرة، ما تجعلون لي ؟
قالوا: لا نعصيك شيئا.
فأوردهم ماء ورياضا خضراء، فمكث فيهم ما شاء الله، ثمّ قال: يا هؤلاء، الرّحيل الرّحيل.
قالوا: إلى أين ؟
قال: إلى ماء ليس كمائكم، ورياض ليست كرياضكم.
فقال جلّ القوم: والله ما وجدنا هذا حتى ظننّا أن لن نجده، وما نصنع بعيش هو خير من هذا ؟!
وقالت طائفة - وهم أقلّهم -: ألم تُعْطُوا هذا الرّجل عهودَكم ومواثيقَكم بالله لا تعصونه شيئا ؟ وقد صدقكم في أوّل حديثه، فو الله ليصدقنّكم فى آخره.
فراح بمن اتّبعه، وتخلّف بقيّتهم، فبادرهم عدوّهم، فأصبحوا بين أسير وقتيل.
فليتأمّل اللّبيب هذه الأمثال حقّ التأمّل .. فإنّ التعلّق بالدّنيا هو السّحر بعينه .. وما هذه الكلمات والأمثال إلاّ رقـيـة، فليجعلها المحسن وقايةً له، وليجعلها الغَرِق في أوحال الدّنيا أوّل جرعة لدواء يقضي على هذا السّحر الأخّاذ.
والله تعالى المستعان، وعليه التُّكلانالحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فكم من حال عصيب مرّ ولا يزال يمرّ بهذه الأمّة ! وما أشدّ ما تراه من ألوان الكربة والغُمّة !
وأنظار أكثر النّاس اليوم متوجّهة إلى أوهام، يظنّونها أسبابا، وقلوبهم متعلّقة بأحلام، ظنّوها للنّصر أبوابا.
لذا، رأيت أن ننتقل سويّا، ونلبث مليّا، في عالم الحقائق .. عالم حالَ بيننا وبينه أعظم عائق ..
فقد سئمنا من الشّعارات الخفّاقة، والهتافات البرّاقة: أصحاب القرار تحت رحمة الأعداء، ومن دونهم يتخبّط خبطَ عشواء ..
نُعلّق العار بغيرنا، وما العيب إلاّ في أنفسنا:
ومن العجائب - والعجائب جمّة - *** قرب الدّواء وما إليه وصـول
كالعيس في البيداء يُهلكها الظّمـا *** والماء فـوق ظهـورها محمول
وسنّة الله تعالى أنّ الذلّ والصّغار على من خالف أمره، وأوغر بالتكبّر صدره، والقرآن يصدع بذلك، لا يزيغ عنه إلاّ هالك:{إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرّعد من:11].
وكم غيّرت الأمّة وبدّلت !
والعجيب: أنّهم بعد كلّ ما أراهم الله من صدق أخباره، وعدل أحكامه، تجد الأمّة لا تعود إلى كتاب الله وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم !
فنتساءل: أهذه الأمّة مسحورة حتّى كبّلت أيديها ؟!
أهي بحاجة إلى راقٍ ليرقيها ؟!
والجواب: نعم، إنّه السّحر .. وأيّ سحر ؟ إنّه عشق وحبّ الدّنيا !
روى الإمام أحمد، وأبو داود عنْ ثوْبانَ مولى رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
(( يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا )).
فقال قائلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟! قالَ:
(( بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ )).
فقالَ قائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْوَهْنُ ؟ قالَ:
(( حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ )).
وصدق صلّى الله عليه وسلّم، فما من بليّة ولا رزيّة إلاّ وسببها حبّ الدّنيا الدنيّة.
فاسألوا تارك الصّلاة لم تركها ؟ واسألوا مانع الزّكاة لم منعها ؟ واسألوا السّارق لم سرق ؟ والزّاني لم زنى ؟ والمغتصب لم اغتصب ؟ والرّاشي لم رشى ؟ وآكل الرّبا لم أكل ؟ والجهاد لم عطل ؟
إنّه حبّ الدّنيا وكراهية الموت .. واستوينا مع بني إسرائيل في كلّ قديم وجديد، فحقّ علينا كلّ عقاب ووعيد، لأنّ من أبرز صفات اليهود والنّصارى البغاة:{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ}.
وإنّ عمّالكم أعمالكم، وكما تكونوا يولّ عليكم.
فتعالَوا نرْقِي أنفسَنا من سحر الدّنيا الّتي أسرتنا، وبحبّها قد أذلّتنا، لعلّ الله ينزل علينا سكينة من عنده، ويهدينا جميعاً إلى رُشده.
هذا هو العالم الّذي ينبغي أن نعيشه هذه الأيّام .. عالم ينظر إلى الدّنيا على أنّها بحقّ طيف زائل، ونعيم حائل.
تأمّلوا أمثال الدّنيا:{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
المثل الأوّل: قال تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآب} [آل عمران: 14].
فأخبر سبحانه أن هذا الّذى تراه عيناك من الزّينة الّتي أخذت بألباب العباد، إنّما هو تزيين لا حقيقة له، كالمرأة التي تضع المساحيق على وجهها فيأخذ بلبّك، وفي الحقيقة إنّما هو غطاء ساتر.
ثمّ أخبر سبحانه أنّ ذلك كلّه متاع الحياة الدّنيا، ومتاع الدّنيا مهما غلا فهو رخيص، ومهما شرف فهو خسيس.
ثمّ شوّق تعالى عباده إلى المتاع الدّائم الّذي لا يبيد، فقال:{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:15].
إذن .. فما سرّ هذه المتعة الّتي نجدها في متاعها ؟ وما هذه الفرحة التي تحويها مع أقراحها ؟
قال تعالى:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32].
لعبٌ تتمتّع به الأبدان، ولهو تلهو به النّفوس .. مجرّد نزوة عابرة، وصفقة خاسرة.
المثل الثّاني: روى مسلم عن جابِرٍ رضي الله عنهما أنّ رسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم مَرَّ بِالسُّوقِ ... فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ، فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ:
(( أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ ؟)).
فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ ؟ قالَ:
(( أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ ؟)).
قالُوا: وَاللهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ ؟! فقالَ صلّى الله عليه وسلّم:
(( فَوَاللهِ، لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ )) [الأسكّ: الصّغير أو مقطوع الأذنين].
فلم يقتصر على تمثيلها بالسّخلة الميتة، بل جعلها أهون على الله منها !
فإذا كان مثلُها عند الله أهونَ وأحقرَ من سخلةٍ ميتةٍ على أهلها، فمُحِبُّها وعاشقُها أهون على الله من تلك السّخلة !
وفى كتاب الزّهد للإمام أحمد أنّ عيسى عليه السّلام كان يقول:" بحقٍّ أقول لكم، إنّ أكلَ الخبز، وشُربَ الماء العذب، ونوماً على المزابل مع الكلاب، كثيرٌ لمن يريد أن يرثَ الفردوس ".
المثل الثّالث: ( الدّنيا قنطرة، فاعبروها ولا تعمروها ).
وهذا مثل صحيح غاية في الصحّة؛ فإنّ الحياة معبرٌ إلى الآخرة، والمهد هو أوّل القنطرة، واللّحد آخرها.
ولا بدّ من العبور .. فمن وقف يبني على القنطرة، ويزيّنها بأصناف الزّينة، فهو فى غاية الجهل والحمق !
روى أحمد عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنّ رسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم دَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ رضي الله عنه وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فقالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، لَوْ اتَّخَذْتَ فِرَاشًا أَوْثَرَ مِنْ هَذَا ؟ فقَالَ:
(( مَا لِي وَلِلدُّنْيَا ؟! مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا )).
فتأمّل حسن هذا المثل، ومطابقته للواقع: فإنّها فى خضرتها كشجرة، وفى سرعة انقضائها وقبضها شيئا فشيئا كالظلّ، والعبد مسافر إلى ربّه، والمسافر إذا رأى شجرة فى يوم صائف لا يحسن به أن يبنِيَ تحتها دارا، ولا يتّخذها قرارا، بل يستظلّ بها بقدر الحاجة، ومتى زاد على ذلك انقطع عن الرّفاق.
وعن مكحول قال: قال عيسى بن مريم عليه السّلام: يا معشر الحواريّين، أيّكم يستطيع أن يبني على موج البحر دارا ؟. قالوا: يا روح الله، ومن يقدر على ذلك ؟! فقال: إيّاكم والدّنيا، فلا تتّخذوها قرارا.
المثل الرّابع: شهوات الدنيا فى القلب كشهوات الأطعمة فى المعدة.
روى أحمد عن أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ رضي الله عنه عن رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ مَطْعَمَ ابْنِ آدَمَ جُعِلَ مَثَلًا لِلدُّنْيَا، وَإِنْ قَزَّحَهُ وَمَلَّحَهُ فَانْظُرُوا إِلَى مَا يَصِيرُ )).
وسوف يجد العبد عند الموت لشهوات الدّنيا في قلبه من الكراهة والنّتن والقبح، ما يجده للأطعمة اللّذيذة إذا أخرجها من بطنه !
وكما أنّ الأطعمة كلّما كانت ألذّ طعماً، وأكثر دسماً، وأكثر حلاوةً، كان رجيعُها أقذر.
فكذلك كلّ شهوة كانت في النّفس ألذّ وأقوى، فالتّأذّي بها عند الموت أشدّ، كما أن تفجع الإنسان بمحبوبه إذا فقده يقوى بقدر محبة المحبوب.
المثل الخامس: حسرات الاشتغال بنعيم الدّنيا عن الآخرة.
فمثل أهلها في غفلتهم مثل قوم ركبوا سفينة، فانتهت بهم إلى جزيرة، فأمرهم الملاّح بالخروج لقضاء الحاجة، وحذّرهم الإبطاء، وخوّفهم مرور السّفينة، فتفرّقوا في نواحي الجزيرة:
· فقضى بعضهم حاجته، وبادر إلى السّفينة، فصادف المكان خاليا، فأخذ أوسع الأماكن وألينَها.
· ووقف بعضهم فى الجزيرة ينظر إلى أزهارها وأنوارها العجيبة ويسمع نغمات طيورها، ويعجبه حسن أحجارها، ثّم حدّثته نفسه بفوت السّفينة وسرعة مرورها، وخطر ذهابها، فلم يصادف إلا مكانا ضيّقا، فجلس فيه.
· وأكبّ بعضهم على تلك الحجارة المستحسنة، والأزهار الفائقة، فحمل منها، فلمّا جاء لم يجد في السّفينة إلاّ مكانا ضعيفا، وزاده حمله ضيقا ! فصار محموله ثقلا عليه ووبالا، ثم ذبلت الأزهار وتغيّرت، وآذاه نتنها، وندم، فلم تنفعه النّدامة.
· وتولّج بعضهم فى تلك الرّياض، ونسي السّفينة، وأبعد في نزهته، فهو تارة يتناول من الثّمر، وتارة يشمّ تلك الأنوار، وتارة يعجب من حسن الأشجار، وهو على ذلك خائف من سبع يخرج عليه، غير منفكّ من شوك يتشبّث في ثيابه، ويدخل فى قدميه، أو غصن يجرح بدنه.
حتّى إنّ الملاّح نادى بالنّاس عند دفع السّفينة، فلم يبلغه صوته لاشتغاله بملاهيه !
فهذا مثل أهل الدّنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم موردهم وعاقبة أمرهم، وما أقبح بالعاقل أن تغرّه أحجار ونبات يصير هشيما !
المثل السّادس: اغترار النّاس بالدّينا وضعف يقينهم في الآخرة.
مثلهم كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء، فنفِد زادهم، فلم يقدروا على المسير، وبقوا بالمفازة لا زاد ولا حمولة ! فأيقنوا بالهلكة.
فبينما هم كذلك، إذ خرج عليهم رجل فى حلّة يقطر رأسه، فقالوا: إنّ هذا قريب عهد بريف، وما جاءكم هذا إلاّ من قريب.
فقال: يا هؤلاء، أرأيتم إن هديتكم على ماء روّاه، ورياض خضرة، ما تجعلون لي ؟
قالوا: لا نعصيك شيئا.
فأوردهم ماء ورياضا خضراء، فمكث فيهم ما شاء الله، ثمّ قال: يا هؤلاء، الرّحيل الرّحيل.
قالوا: إلى أين ؟
قال: إلى ماء ليس كمائكم، ورياض ليست كرياضكم.
فقال جلّ القوم: والله ما وجدنا هذا حتى ظننّا أن لن نجده، وما نصنع بعيش هو خير من هذا ؟!
وقالت طائفة - وهم أقلّهم -: ألم تُعْطُوا هذا الرّجل عهودَكم ومواثيقَكم بالله لا تعصونه شيئا ؟ وقد صدقكم في أوّل حديثه، فو الله ليصدقنّكم فى آخره.
فراح بمن اتّبعه، وتخلّف بقيّتهم، فبادرهم عدوّهم، فأصبحوا بين أسير وقتيل.
فليتأمّل اللّبيب هذه الأمثال حقّ التأمّل .. فإنّ التعلّق بالدّنيا هو السّحر بعينه .. وما هذه الكلمات والأمثال إلاّ رقـيـة، فليجعلها المحسن وقايةً له، وليجعلها الغَرِق في أوحال الدّنيا أوّل جرعة لدواء يقضي على هذا السّحر الأخّاذ.
والله تعالى المستعان، وعليه التُّكلان.