فالدّنيا كانت ممّا يلي المدينة، والقصوى ممّا يلي مكّة، أي: إذ أنتم نُزولٌ بشفير الوادي بالجانب الأدنى إلى المدينة، وعدوّكم بالجانب الأقصى، {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}:
منهم من قال: هو ركْبُ أبي سفيان ومن معه، كانوا في موضع أسفل منهم إلى ساحل البحر مع الأمتعة.
ومنهم من قال: هي الإبل الّتي كانت تحمل أمتعة المسلمين، وكانت في موضع يأمنون عليها توفيقا من الله عزّ وجلّ لهم؛ فذكّرهم نِعَمَه عليهم.
وذكّرهم بأنّهم لو تواعدوا على ميعاد لَمَا خرجوا لقلّتهم وكثرة المشركين، أو لِما غرسه الله من مخافةٍ ومهابةٍ في صدور أهل الشّرك. فأتى الله بهؤلاء وهؤلاء إلى بدر، والتقى الجمعان في اليوم السّادس عشر من رمضان.
عندئذ - كما في حديث أنسٍ -: ( فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ )).. أي: لا يفعلنّ أحد منكم شيئا إلاّ بإذن.
فأمر صلّى الله عليه وسلّم الصّحابة ببناء عَرِيش له وهي قبّة بأعمدة أشبه بالخيمة الّتي تعدّ في الحروب والمسمّاة بـ"غرفة العمليّات".. ولكنّه صلّى الله عليه وسلّم ليس كغيره من قادة الحروب .. إنّه يلتجئ فيها إلى ربّه عزّ وجلّ، ويخطّط للحرب بما يفتح الله له.
جاء في صحيح مسلم عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال - وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ -:
(( اللَّهُمَّ أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ ! اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا !)) فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ، وَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللهِ ! فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ !، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}.
خرج من القبّة، وخرج وراءه أبو بكر، وخرجت معهما البُشرى العظيمة:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}.
ورآه الصّحابة يشير إلى شيء، ويقول شيئا .. ولكنّه كان يشير إلى شيء لا يرونه ! ويتكلّم بأشياء لم تقع !
إنّه يتحدّث بوحي من الله له.
روى مسلم عنْ أَنَس رضي الله عنه قالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقُولُ: (( هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا )) وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَ (( هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا ))، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ، (( وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا )) وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ.. قَالَ:" وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا جَاوَزَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ مَوْضِعِ يَدِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم..".
وأنس بن مالك رضي الله عنه لم يكن يوم بدر، فهو يحدّث بذلك عن غيره: عن عمر.
ففي صحيح مسلم أيضا عنْ أنسِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قالَ: كُنَّا مَعَ عُمَرَ رضي الله عنه بَيْنَ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ، ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا عَنْ أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ يُرِينَا مَصَارِعَ أَهْلِ بَدْرٍ بِالْأَمْسِ، يَقُولُ: (( هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ )) فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا أَخْطَئُوا الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ".
هنالك امتلأت قلوب المؤمنين حماسا ونشاطا.. وأيقنوا أنّ صباح الغد سيُشرق عليهم بأنوار من النّصر المبين.. فقضَوا يومهم ذلك همّة وحركة.. يدعون ربّهم نصرا طال انتظاره.. فكان يوما مليئا بالعمل والدّعاء والأحلام..وما إن خيّم عليهم اللّيل حتّى آووا إلى نوم يستعدّون به للقاء الغد، إلاّ رجلا واحدا.
يقول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه - كما في مسند الإمام أحمد -:
" لَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ بَدْرٍ وَمَا مِنَّا إِنْسَانٌ إِلَّا نَائِمٌ، إِلَّا رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى شَجَرَةٍ وَيَدْعُو حَتَّى أَصْبَحَ ".
نام الجميع فاستيقظ عليّ رضي الله عنه وسط اللّيل، فرأى ما رآه.. رأى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يفزع إلى الصّلاة، كما أمر الله تعالى قائلا:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153].
ثمّ استيقظ آخر، وثالث، ورابع، تراهم يهبّون من نومهم العميق.. فما الّذي أيقظهم.. أهو عدوّ مباغت ؟! أم هو ضوء القمر الّذي يحلو معه الحديث والسّمر ؟! ولكنّ القمر قد اختفى منذ قليل.
لا هذا ولا ذاك، إنّه: المـطـر.
تألّف السّحاب.. وحجب القمر.. وبدأ الغيث قطرات ثمّ انهمر.. فتنبّه الصّحابة من نومهم، فإذا المطر يغسلهم ويطهّرهم، وينزل عليهم القرآن كالمطر:{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} [الأنفال: من الآية11].. فشربوا، وتطهّروا، وسقوا الظّهر، وتلبّدت السّبخة الّتي كانت بينهم وبين المشركين حتّى ثتبت فيها أقدام المسلمين وقت القتال..
تحرّك الصّحابة ليحتمُوا من المطر، أمّا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فما برح مكانه .. بل ظلّ يدعو ربّه طوال اللّيل.
روى الإمام أحمد عن عليّ رضي الله عنه قال: ثُمَّ إِنَّهُ أَصَابَنَا مِنْ اللَّيْلِ طَشٌّ مِنْ مَطَرٍ - أي: ماء - فَانْطَلَقْنَا تَحْتَ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ - نوع من التّروس - نَسْتَظِلُّ تَحْتَهَا مِنْ الْمَطَرِ، وَبَاتَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَدْعُو رَبَّهُ عزّ وجلّ، وَيَقُولُ: (( اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْفِئَةَ لَا تُعْبَدْ )) قَالَ: فَلَمَّا أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ نَادَى: (( الصَّلَاةَ عِبَادَ اللهِ ))، فَجَاءَ النَّاسُ مِنْ تَحْتِ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَحَرَّضَ عَلَى الْقِتَالِ "..
وبعد الغداة أغفى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إغفاءة قصيرة رأى فيها بشرى من الله.. ويحدّثنا ربّنا جلّ جلاله عن تلكم الرّؤيا:
{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال:43].
وحدّث بها عباده في سورة أخرى حتّى يتذكّروا آلاء الله ونعمه، وليتّعظ أولو الأبصار، فقال:{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران:13].
قال عليّ رضي الله عنه:" وحَرَّضَ عَلَى القِتَالِ "، امتثالا لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: من الآية65].
فقام صلّى الله عليه وسلّم فيهم يشرع لهم أبواب الشّهادة والجنّة، فقال -كما في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه:
(( قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ )) ! فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ رضي الله عنه:" يَا رَسُولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ؟!" قَالَ: (( نَعَمْ )) قَالَ: " بَخٍ بَخٍ !" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ ؟!)).. قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا.. قَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا ))..فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: " لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ !" قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ..".
ولا شكّ أنّ الّذي يسمع إلى تلك الأحاديث وهو على فراش وثير، ليس كمن يسمعها وقت النّفير؛ فترى النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم يمشي بينهم يصفّهم، ويعدل صفوفهم.. طمعا أن يكون ممّن قال فيهم المولى تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصفّ:4]. وهو يعلم يقينا أنّ الصفّ استوى بعدما استوت القلوب.. فقد أخبره الله بذلك قائلا:{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)} [الأنفال].
فكلّهم على قلب رجل واحد .. أمّا الشّجاعة فلا تسَلْ عنها.. فإنّ ضالّتك ستجدها بأيدي من شكّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في بلوغهم لصغرهم.
فها هو عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه واقف بالصّف .. يلتفت يمينا وشمالا .. ومن رآه ظنّ أنّه يودّ لو عاد إلى بيته حتّى لا يقاتل أهله وعشيرته .. ولكنّه كان قلقا لشيء آخر:
روى البخاري عن عبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قالَ:" بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بِغُلَامَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا [سِرًّا مِنْ صَاحِبِهِ]، فَقَالَ: يَا عَمِّ ! هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ ! مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي ؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا ! [وفي رواية قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه] فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ..
فَغَمَزَنِي الْآخَرُ، فَقَالَ لِي [سرًّا مِنْ صَاحِبِهِ] مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ: أَلَا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي...
وَكَانَا: مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ، وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ.
ثمّ بدأت المعركة.
[1]/ قال ابن منظور رحمه الله:" العدوة: شاطئ الوادي، وتطلق أيضا على المكان المرتفع، فالعُدوة الدّنيا ممّا يلي المدينة، والقُصوى ممّا يلي مكّة، قال ابن السكّيت: عدوة الوادي وعدوته جانبه وحافّته ".