ومن بديع كلام سهل بن هارون رحمه الله:
" والنّاسُ مُوَكّلُون بتعظيم الغريب، واستِطراف البعيد، وليس لهم في الموجود الرَّاهن، وفيما تحتَ قُدرتهم من الرّأْي والهوى، مِثْلُ الذي لهم في الغريب القليل، وفي النّادر الشاذّ، وكلِّ ما كان في ملْك غيرهم.
وعلى ذلك زَهِدَ الجِيرانُ في عالمِهِم، والأصحابُ في الفائدة من صاحبِهم، وعلى هذا السّبيلِ يستَطْرفون القادمَ عليهم، ويرحَلُون إلى النَّازح عنهم، ويتركون مَن هو أعمُّ نفعاً، وأكثرُ في وجوه العِِلم تصرُّفاً، وأخفُّ مَؤُونةً وأكثرُ فائدةً " اهـ.
[" البيان والتّبيين " (1/90)].
وقيل للصّلت بن عطاء: كيف غلبْتَ على البرامكة وكان عندهم من هو آدبُ منك ؟ قال: كنتُ بعيدَ الدّار منهم، فقرّبني إليهم تبعُّدِي منهم ".["زهر الأداب" (1/343)].
وقال ابن حزم رحمه الله في رسالة " فضائل الأندلس " - نقلا عن " نفح الطيب " (3/181)-:
" وأمّا جهتنا: فالحكمُ في ذلك ما جرى به المثل السّائر:" أَزْهَدُ النّاسِ فِي عالِمٍ أهلُه "، وقرأت في الإنجيل أنّ عيسى عليه السّلام قال: ( لا يفقِد النبيُّ حُرمتَه إلاّ في بلده ) !
وقد تيقنّا ذلك بما لقي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من قريش، وهم أوفر النّاس أحلاما، وأصحّهم عقولا، وأشدّهم تثبّتا ... حتّى خصّ الله تعالى الأوسَ والخزرج بالفضيلة الّتي أبانهم بها عن جميع النّاس، والله يؤتي فضله من يشاء.
ولا سيّما أندلسُنا، فإنّها خُصَّت من حَسَد أهلِها للعالِم الظّاهرِ فيهم الماهر منهم، واستقلالِهم كثيرَ ما يأتي به، واستهجانِهم حسناته، وتتبّعهم سقطاتِه وعثراتِه، وأكثر ذلك مدّة حياتِه بأضعاف ما في سائر البلاد:
إن أجاد قالوا: سارق مُغِير، ومنتحل مُدَّعٍ !
وإن توسّط قالوا: غثّ بارد، وضعيف ساقط !
وإن باكرَ الحِيَازةَ لقَصْب السّبق قالوا: متى كان هذا ؟ ومتى تعلّم ؟ وفي أيّ زمان قرأ ؟ ولأمّه الهبل !
وبعد ذلك إن ولجت به الأقدار أحد طريقين: إمّا شفوفا بائنا يُعلِيه على نظرائه، أو سلوكه في غير السّبيل الّتي عهدوها، فهنالك حَمِي الوطيس على البائس، وصار غرضا للأقوال ! وهدفا للمطالب ! ونصبا للتسبب إليه ! ونهباً للألسنة، وعُرضَةً للتطرّق إلى عرضه !
وربّما نُحِل ما لم يقل، وطُوِّق ما لم يتقلّد، وأُلحِق به ما لم يَفُه به ولا اعتقده قلبُه !
فإن تعرّض لتأليفٍ: غُمِز ولُمِز، وتُعرِّض وهمِز، واشتُطّ عليه وعُظِّم يسيرُ خطبِه، واستُشْنِع هيِّن سقطِه، وذهبت محاسنُه، وسُتِرت فضائلُه، وهتِف ونودِي بما أُغفِل، فتنكسر لذلك همّتُه، وتكِلُّ نفسُه، وتبرُد حميّتُه.
وهكذا عندنا نَصيبُ من ابتدأ يحوك شعرا أو يعمل بعمل رياسة، فإنّه لا يفلت من هذه الحبائل، ولا يتخلّص من هذه النّصب، إلاّ الناهض الفائت، والمطفّف المستولي على الأمد ..."اهـ.
وكان ممّا أنشده رحمه الله في هذا المعنى يخاطب قاضي الجماعة بقرطبة عبد الرحمن بن بشر:
أنا الشّمس فِي جوّ العلوم منيـرة *** ولكنّ عيبـي أنّ مطلـعِيَ الغرب
ولو أنّنِي من جانب الشّرق طالع *** لَجَدَّ على ما ضاع من ذِكْرِيَ النّهب
ولِي نَحوُ أكناف العراق صبابـة *** ولا غرو أن يستوحش الكَلِف الصبّ
فإن يُنْزِل الرحمن رحْلي بينـهم *** فحينئذ يبـدو التأسّـف والكـرب
فكم قائلٍ أغفلته، وهو حاضـر *** وأطلب ما عنه تجـيء بـه الكُتْـب
هنالك يُدرَى أنّ للبُـعد قصّـةً *** وأنّ كسـاد العلم آفـتـه القـرب
ولكنْ لِي في يوسـف خير أسوة *** وليس على من بالنبـيّ ائتسـى ذنب
يقول- وقال الحقّ - الصّدق إنّني *** (حفيظ عليم) ما على صـادقٍ عتـب
["نفح الطّيب" (2/81)، و"المُغرب في حلى المَغرب" (1/356)، و" تاريخ الإسلام " (30/414)].
وثالثة الأثافيّ أن يصْحبَ هذا الزّهدَ طعنٌ وثلبٌ، وجحدٌ للحقّ وسلبٌ، وصدق عثمان بن عفّان رضي الله عنه حين قال:" لكلِّ أمَّةٍ آفة، ولكلِّ نِعمة عاهَة، وإنّ آفةَ هذه الأمّة عَيّابون طعَّانون ".
["مجمع الأمثال" (2/453)، و"صبح الأعشى" (1/258)، و"إعتاب الكُتّاب" لابن الأبار البلنسي].
والله عزّ وجلّ الهادي إلى سواء السّبيل.