للعلماء في معنى تسميتها بليلة القدر ثلاثة أقوال:
أ) القدْر بمعنى التّعظيم, ومنه قوله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه}, فهي ليلة التعظيم لنزول القرآن فيها, و لما يقع فيها من تنزّل الملائكة، والبركة الحاصلة فيها.
ب) القدْر بمعنى التّضييق, ومنه قوله تعالى:{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ}، وقوله جلّ ذكره عن يونس عليه السّلام:{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}. ومعنى التضييق فيها:
أنّ الأرض تضييق بنزول الملائكة؛ فقد روى الإمام أحمد بسند حسن عن أبي هريرَةَ رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال في ليلةِ القدْرِ: (( إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى )).
أو لأنّ العلم بها وبوقتها ضاق.
ج) القدْر بمعنى القدَر والقضاء؛ لأنّ الله تبارك وتعالى يقدّر فيها مقادير العام بكامِلِه، فيفصل الله من اللّوح المحفوظ مقادير الخلق ويؤتيها ملائكتَه؛ قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (ا3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)} [الدخان].
2- المبحث الثّاني: فضلها.
فليلة القدر هي أفضل ليالي السّنة جميعها، ويظهر لنا فضلها من وجوه عدّة، نُجملها فيما يلي:
- أنّ الله عزّ وجلّ هو من سمّاها بليلة القدر في سورة خصّها بها وبفضلها، فقال سبحانه:{ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)} [القدر].
- أنّها ليلة نزول القرآن الكريم: وإذا كان الله تعالى عظّم شهر رمضان لنزول القرآن فيه، فكيف بليلته ؟
- أنّ الله سمّاها ( مباركة ): فقال عزّ من قائل:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}.
- كثرة الأجر فيها ومضاعفتُه للطّائعين، فالعبادة فيها تعدل عبادةَ ألفِ شهر ! أي: أفضل من عبادة أربعٍ وثمانين سنة !
لذلك روى ابن ماجه بسند حسن عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ )).
- نزول الملائكة الكرام فيها، وفي مقدّمتهم أمين الوحي جبريل عليه السّلام، وحيثما حلّت الملائكة حلّ الخير كلّه.
- أنّ الله تعالى كتب لمن قامها زيادةً على الأجر، أنّه يغفر له ما تقدّم من ذنبه؛ لما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )).
3- المبحث الثّالث: وقتها.
لقد ألّف الحافظ العراقيّ رحمه الله رسالة في ذلك أسماها " شرح الصّدر بذكر ليلة القدر "، استوعب فيها كلام أهل العلم في تعيينِها، وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في " فتح الباري " ستّة وأربعين قولا في تعيِينها، ورجّح أنّها في الوِتر من العشر الأواخر من رمضان، حيث قال رحمه الله في (4/306):
" ليلة القدر منحصرة في رمضان، ثمّ في العشر الأخير منه، ثم في أوتاره، لا في ليلة منه بعينها، وهذا هو الّذي يدلّ عليه مجموعُ الأخبار الواردة فيها ".
أمّا حصر النّاس لها في ليلة السّابع والعشرين، فهو من الأخطاء الشّائعة، لأمرين اثنين:
الأوّل: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمر أن بتحرّيها في العشر الأواخر من رمضان، فقد روى البخاري ومسلم عن عائشةَ رضي الله عنها أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ )).
الثّاني: أنّ هناك عدّة أحاديث تدلّ على أنّها كانت في غير ليلة السّابع والعشرين، من ذلك:
* ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه أنّه سئل عن ليلة القدر ؟ فقال: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم عَشْرَ الْأُوَلِ مِنْ رَمَضَانَ، وَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السّلام فَقَالَ: ( إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ )، فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ، فَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السّلام فَقَالَ: ( إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ )، فَقَامَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَالَ: (( مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَلْيَرْجِعْ، فَإِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَإِنِّي نُسِّيتُهَا، وَإِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي وِتْرٍ، وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ )). وَكَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ جَرِيدَ النَّخْلِ وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ شَيْئًا فَجَاءَتْ قَزْعَةٌ فَأُمْطِرْنَا.
قال أبو سعيدٍ رضي الله عنه: فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ.
* وفي مسند أحمد وأبي داود عن عبدِ اللهِ بنِ أنيس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ لهم: (( تَحَرَّوْهَا لَيْلَةَ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ )).
* ومرّة قال لهم (( اِلْتَمِسُوهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ )) كما في الصّحيحين، ولو كانت مستقرّةً في ليلة السّابع والعشرين لما أمرهم بتحرّيها ليلتئذ.
* ومرّة - كما في "صحيح ابن خزيمة - قال صلّى الله عليه وسلّم لهم: (( اِلْتَمِسُوا لَيْلَةَ القَدْرِ آخِرَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ ))، أي: ليلة تسع وعشرين.
* ومرّةً أخبر بها صلّى الله عليه وسلّم أصحابَه، ولكن رُفِعَت فنسِيها !
روى البخاري عن عبادة بنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: (( إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالْخَمْسِ )).
لذلك قال العلماء: إنّها تنتقل في الوتر من العشر الأواخر، ولا تلزم ليلةً واحدةً بعينها، فما على المسلم إلاّ أن يلتمِسَها في الوتر من العشر كلّها.
4- المبحث الرّابع: علاماتها.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله (4/306):" قد ورد لليلة القدر علاماتٌ، أكثرُها لا تظهر إلاّ بعد أن تمضي ".
وأصحّ ما جاء في هذا الباب أنّ ليلتها تكون معتدلَةً، وربّما أمطرت، وتصبح الشّمس في مطلعها خفيفة، ويدلّ على ذلك ما يلي:
- ما رواه مسلم عن أُبيِّ بن كَعبٍ رضي الله عنه قال:" هِيَ لَيْلَةُ صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا ".
أي: إنّ عادة شعاع الشّمس إذا نظرت إليها عند طلوها أن يُرَى مثلَ الحبال والقضبان مقبلةً إليك، وفي هذه اللّيلة لا يُرى ذلك.
- وروى ابن خزيمة والطّيالسي والبيهقيّ عن ابنِ عبّاس رضي الله عنهما عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لَيْلَةُ القَدْرِ لَيْلَةٌ سَمْحَةٌ، طَلْقَةٌ، لاَ حَارَّةٌ وَ لاَ بَارِدَةٌ، تُصْبِحُ الشَّمْسُ صَبِيحَتَهَا ضَعِيفَةً حَمْرَاءً )).
- ما سبق ذكره من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه في الصّحيحين قال صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ )). قال أبو سعيد: وَكَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ جَرِيدَ النَّخْلِ وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ شَيْئًا فَجَاءَتْ قَزْعَةٌ فَأُمْطِرْنَا، فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ.
5- المبحث الخامس: كيف يتحرّى المسلم ليلة القدر ؟
لمّا كانت هذه اللّيلة بهذه المكانة والمنزلة، وأنّ من حُرِمها فهو المحروم، نُدِب المسلم إلى أن يتحرّاها طمعا في خيرها وبركتها، ويكون ذلك:
أ) بالاجتهاد في العبادة.
ففي الصّحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالتْ: كانَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ.
ومضى ذكر قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )).
ب) الدّعاء:
فقد روى التّرمذي عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ ؟ مَا أَقُولُ فِيهَا ؟ قَالَ: (( قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي )).
فنسأل الله تعالى العفوّ الكريم أن يَعفُو عنّا.