{وَقُلْ رَبِّي أَدْخِلْنِي} أي: المدينة:{مُدْخَلَ صِدْقٍ} أي: إدخالا مرضيّا لا أرى فيه ما أكره،{وَأَخْرِجْنِي} أي: من مكّة:{مُخْرَجَ صِدْقٍ} أي: إخراجا لا ألتفت بقلبي إليها،{وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} أي: قوّة تنصرني بها على أعدائك.
وهذا الأمر في القرآن جاء بعد قوله تعالى:{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73)} وذلك يوم عرضوا عليه الدّنيا بما فيها من سؤدد وجاه، وأموال وإرفاه، ولكنّ الله خير حافظا، فقال:
{وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74)} وفي هذا موعظة بليغة لمن يأمنُ على نفسه الدّخول على الملوك والسّلاطين، غافلا أنّه مخلوق من ماء وطين.
{إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً (75)} أي: ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات، ونظيره قوله تعالى:{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} [الأحزاب:30].
وفي هذا من الوعيد ما لا يخفى لمن تخلّى عن الثّوابت، وتنازل عن المبادئ.
{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً (77)} [الإسراء]. أي: إن أخرجك هؤلاء من أرضك، فاعلم أنّهم لن يلبثوا فيها بعدك إلاّ قليلا .. وقد كان ذلك بعد سنة ونصف، حيث استأصل الله تعالى رؤوس أهل الكفر يوم بدر.
وفي هذا تسلية لمن ثبت على المبادئ، وأنّ الله ناصره، {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
وبيّن الله تبارك وتعالى أنّ خروجك ليس هو إلاّ على وِفق سنّة الله تعالى، وأنّ كثيرا من الأنبياء والمرسلين أُخرجوا من أرضهم، وحيل بينهم وبين أهلهم.
عندئذ اتّجه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى صاحبه أبي بكر رضي الله عنه .. في سرّية تامّة ..
خرج إليه متلثّما .. في وقت يلوذ فيه النّاس ببيوتهم، وتخفّ وطأتهم على الطّرقات لشدّة حرّ الرّمضاء ..
روى البخاري ومسلم عن عائشةَ رضي الله عنها قالت:
لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً.
فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ، قَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم لِلْمُسْلِمِينَ: (( إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ - وَهُمَا الْحَرَّتَانِ -)).
فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه قِبَلَ المَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( عَلَى رِسْلِكَ ! فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي )).
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ ؟ قَالَ: (( نَعَمْ )).
فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ - وَهُوَ الْخَبَطُ - أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ! مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي ! وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ !.
قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم لِأَبِي بَكْرٍ:
(( أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ ))!
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ - بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ -!
قَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ )) .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّحَابَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ !
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( نَعَمْ )).
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ !
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( بِالثَّمَنِ )).
قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ، وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ.
من عبر هذه الحادثة:
1- السرّية التّامّة الّتي كان يحرص عليها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
فتراه يأتي صاحبَه أبا بكر رضي الله عنه حين الظّهيرة، في وقت لا ترى فيه أحدا يجوب أزقّة مكّة.
ويأتيه متلثّما حتّى لا يعرِفه أحد !
ويقول له: (( أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ ))، مع أنّهم أصهاره.
ومن تأمّل مشاريع كثير من إخواننا الدّعويّة، ألفاها تُجْهَض قبل ولادتها لأجل الغفلة عن هذا الهدي.
2- اتّخاذ الأسباب:
فالمولى تبارك وتعالى قادِرٌ على أن يُسخّر لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم البُراق الّذي سخّره له ليلة الإسراء، ولكنّه يعلّم عبادَه وجوب اتّخاذ الأسباب، وسنعود إلى تفصيل هذه النّقطة لاحقا إن شاء الله تعالى.
3- الإخلاص في العمل:
تأمّل قولَ أبي بكرٍ رضي الله عنه: فَخُذْ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، وتأمّل الجواب تجدْه على قدر المُجِيب، حيث قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: (( بِالثَّمَنِ )).
قال أهل العلم - كما في " فتح الباري "-: إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أراد أن تكون هجرته كلّها لله عزّ وجلّ، لا يُشاركه في البذل لها أحدٌ من الخلق.
ولكنّ كفّار قريش تفطّنوا لأمر هجرته، فما موقفهم من ذلك ؟
هذا ما سوف نسلّط عليه الضّوء في الحلقة القابلة إن شاء الله تعالى.