- الحديث الأوّل: ما رواه التّرمذي عن أبي مِجْلَزٍ قال:
دخلَ معاويةُ رضي الله عنه بيتًا فيه عبدُ الله بنُ عامرٍ وعبدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه, فقامَ عبدُ اللهِ بنُ عامرٍ، ولمْ يقُمْ عبدُ اللهِ بنُ الزّبَيْرِ رضي الله عنه؛ فقال معاويةُ رضي الله عنه لابنِ عامرٍ: اجْلِسْ؛ فَإِنِّي سمعتُ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقولُ: (( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ )).
- الحديث الثّاني: ما رواه أحمد - واللّفظ له -، والترمذي عن أنسٍ رضي الله عنه قال: (( مَا كَانَ شَخْصٌ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَكَانُوا إذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا؛ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ )).
- الحديث الثّالث: وهو ما رواه مسلم عن جابرٍ رضي الله عنه قال:
اشْتَكَى رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا، فَصَلَّيْنَا بِصَلَاتِهِ قُعُودًا، فَلَمَّا سَلَّمَ، قَالَ صلّى الله عليه وسلّم:
(( إِنْ كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ ! فَلَا تَفْعَلُوا، ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ، إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا )).
( فصل في الجواب عمّا قد يُعارِض ظاهره هذه الأحاديث )
قال الإمام النّووي رحمه الله في " الأذكار ":
" وأمّا إكرام الداخل بالقيام, فالّذي نختاره أنّه مستحبّ لمن كان فيه فضيلة ظاهرة من علمٍ، أو صلاح، أو شرف، أو ولاية، ونحو ذلك, ويكون هذا القيام للبرّ والإكرام والاحترام، لا للرّياء والإعظام، وعلى هذا استمرّ عمل السلف والخلف, وقد جمعت في ذلك جزءا جمعت فيه الأحاديث والآثار وأقوالَ السّلف وأفعالَهم الدالّة على ما ذكرته.
وذكرت فيه ما خالفها وأوضحت الجواب عنه, فمن أشكل عليه من ذلك شيء ورغب في مطالعته, رجوت أن يزول إشكاله "اهـ.
وإنّ المتأمّل فيما ذكره الإمام النّوويّ رحمه الله من أدلّة على جواز القيام للشّخص تعظيما، وجدها صحيحة من حيث الثّبوت، ولكنّها ضعيفة من حيث الدّلالة، ومن أشهر العلماء الّذين تعقّبوا كلّ ما استدلّ به رحمه الله، وبيّنوا ضعف تلك الاستدلالات الإمام ابن الحاج المالكيّ رحمه الله في كتابه "المدخل".
فأقوى ما تمسّك به الإمام النّووي رحمه الله:
1- حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند الشيخين: أنّ أهل قريظة نزلوا على حكم سعد رضي الله عنه, فأرسل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إليه فجاء, فقال صلّى الله عليه وسلّم: (( قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ )) الحديث.
الجواب عن ذلك:
إنّ الأمر بالقيام في هذا الحديث لم يكن للتّعظيم، وإنّما هو لإعانته وليُنزلوه عن دابّته، وهذا ممّا لا خلاف في جوازه.
فقد كان سعدُ بنُ معاذٍ رضي الله عنه قد أُصيب بسهم، وكان هو سبب وفاته بعد ذلك، روى البخاري ومسلم عنْ عائشةَ رضي الله عنها قالت: أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ حِبَّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ ...، رَمَاهُ فِي الْأَكْحَلِ[1]، فَضَرَبَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ.
ويؤيّد ذلك رواية الإمام أحمد بسند حسن، وفيها:" فلمّا طَلَعَ، قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ فَأَنْزِلُوهُ )).
ولا شكّ أنّ هذه الزّيادة تخدش في الاستدلال بقصّة سعد على مشروعيّة القيام المتنازع فيه.
2- ومما تمسك به الإمام النّووي رحمه الله حديثُ كعب بن مالك رضي الله عنه في قصّة توبته وفيه: ( فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ يُهَرْوِلُ, فَصَافَحَنِي، وَهَنَّأَنِي ).
الجواب عن ذلك:
إنّ طلحة رضي الله عنه لم يقُم لتعظيمه، وإنّما قام لتهنئته ومصافحته كما هو مُصرّح به في الرّوية، وهذا لا نزاع في جوازه.
وإنّما انفرد طلحة رضي الله عنه بذلك دون غيره من سائر الصّحابة رضي الله عنهم؛ لقوّة المودّة بينهما كما هو معروف من سيرتهما، وقد جرت العادة أنّ التّهنئة والبشارة ونحو ذلك إنّما تكون على قدر المودة والخلطة, بخلاف السّلام فإنّه مشروع على من عرفت ومن لم تعرف.
3- وممّا تمسّك به الإمام النّووي رحمه الله ما رواه أبو داود والتّرمذي عن عائشة رضي الله عنها، قالت:
" مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلًّا بِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم مِنْ فَاطِمَةَ رضي الله عنها، كَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا، فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَبَّلَهَا، وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَامَتْ إِلَيْهِ، فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ، فَقَبَّلَتْهُ، وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا ".
والجواب عن ذلك:
إنّما قام صلّى الله عليه وسلّم إليها؛ من أجل استقبالها وتقبيلها وإجلاسها مكانه - كما هو مصرّح به أيضا في الرّواية -، وهذا لا نزاع فيه أيضا.
قال ابن الحاج رحمه الله:" ولا سيما ما عُرِف من ضِيقِ بيوتهم، وقلّة الفرش فيها, فكانت إرادةُ إجلاسِه لها في موضعه مستلزمةً لقيامه ".
قال ابن القيّم رحمه الله تعالى في " تهذيب السنن " (14/85):
" وأمّا الأحاديث المتقدّمة، فالقيام فيها عارض للقادم، مع أنّه قيام إلى الرّجل للقائه، لا قياما له، وهو وجه حديث فاطمة، فالمذموم القيام للرجل، وأما القيام إليه للتلقّي إذا قدم فلا بأس به، وبهذا تجتمع الأحاديث، والله أعلم" اهـ.
قال المباركفوري رحمه الله:" وأجاب النّووي عن أحاديث كراهة قيام الرّجل للرّجل بما لا يشفي العليل، ولا يروي الغليل، كما بيّنه ابن الحاج مفصّلا ".
ماذا لو أدّى ترك القيام للشّخص إلى مفسدة ؟
سُئِل ابنُ تيمية رحمه الله تعالى عن النّهوض والقيام الّذي يعتاده النّاس من الإكرام عند قدوم شخص معيّن معتبر، هل يجوز أو لا ؟ وإذا كان يغلب على ظن القاعد أنّ القادم يخجل أو يتأذّى باطنا، وربّما أدّى ذلك إلى بُغْضٍ وعداوة ومقت ... هل يحرم عليه، أو لا يجوز ذلك في حق الأشراف والعلماء ؟
فأجاب رحمه الله كما في " مجموع الفتاوى " (1/374):
" الحمد لله ربّ العالمين، لم تكن عادةُ السّلف على عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وخلفائه الرّاشدين رضي الله عنهم أن يعتادوا القيام كلّما يروْنَه صلّى الله عليه وسلّم كما يفعله كثير من النّاس، بل قد قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ( لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لَهُ؛ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ ).
ولكن ربّما قاموا للقادم من مغيبه تلقّيا له، كما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قام لعكرمة، وقال للأنصار لمّا قدم سعدُ بنُ معاذ رضي الله عنه: (( قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ ))، وكان قدم ليحكم في بني قريظة؛ لأنّهم نزلوا على حكمه.
والّذي ينبغي للنّاس أن يعتادوا اتّباع السّلف على ما كانوا عليه على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنّهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فلا يعدل أحد عن هدى خير الورى، وهدى خير القرون، إلى ما هو دونه، وينبغي للمطاع أن لا يقرّ ذلك مع أصحابه بحيث إذا رأوه لم يقوموا له إلاّ في اللّقاء المعتاد، وأمّا القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقيا له فحسن.
وإذا كان من عادة الناس اكرام الجائي بالقيام ولو ترك لاعتقد أنّ ذلك لترك حقّه ! أو قصد خفضه ! ولم يعلم العادة الموافقة للسنة فالأصلح أن يقام له؛ لأن ذلك أصلح لذات البين وإزالة التباغض والشحناء.
وأمّا من عرف عادة القوم الموافقة للسنة، فليس في ترك ذلك إيذاء له، وليس هذا القيام المذكور في قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ))؛ فإنّ ذلك أن يقوموا له وهو قاعد، ليس هو أن يقوموا لمجيئه إذا جاء، ولهذا فرّقوا بين أن يقال: ( قمت إليه ) و( قمت له )".
ثمّ قال رحمه الله:
" وجماع ذلك كلّه: الّذي يصلح اتّباع عادات السّلف وأخلاقهم، والاجتهاد عليه بحسب الإمكان، فمن لم يعتقد ذلك ولم يعرف أنّه العادة وكان في ترك معاملته بما اعتاد من النّاس من الاحترام مفسدة راجحة، فإنّه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، كما يجب فعل أعظم الصّلاحين بتفويت أدناهما "اهـ.
وبهذا الكلام يُجاب عن أسئلة كثير من أبنائنا في المدارس، الّذين يُجبَرُون على القيام للمعلّمين والمسؤولين.
والله الموفّق لا ربّ سواه.