الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فالفرق بين المحرّم لذاته والمحرّم لغيره من وجهين:
الوجه الأوّل: أنّ المحرّم لذاته محرّم تحريم المقاصد، والمحرّم لغيره محرّم تحريم الوسائل.
فالزّنا محرّم تحريم المقاصد، والنّظر إلى المرأة ولمسها محرّم تحريم الوسائل لأنّه يؤدّي إلى الزّنا.
وربا النّسيئة حُرِّم تحريمَ المقاصد لأنّه ظلم، وربا الفضل حُرِّم تحريم الوسائل لأنّه يُفضي إلى الرّبا المحرّم.
الوجه الثّاني: أنّ المحرّم لذاته لا تبيحه إلاّ الضّرورة، والمحرّم لغيره تبيحه الحاجة. وهو ثمرة هذا التّقسيم.
- ومن الأمثلة على ذلك: إباحة النّظر إلى المرأة حال الخِطبة، أو المعاملة، أو الشّهادة. فأُبيح النّظر إلى المرأة في هذه الحالات لأمرين اثنين:
أ) الحاجة إلى ذلك.
ب) ولأنّ النّظر إلى المرأة محرّم لغيره لا لذاته.
- ومثال آخر لذلك: بيع العَرَايا: فالأصل هو: تحريم بيع الثّمار والزّروع بعضها ببعض إلاّ متماثلة، لذلك نهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن المزابنة، [وهي بيع المعلوم بالمجهول من جنسه كأن يبيع تمرا معلوم الوزنِ أو الكيلِ بتمر مجهول الوزن والكيل]، والقاعدة في هذا الباب أنّ: ( الجهل بحقيقة التّماثل كالعلم بحقيقة التّفاضل ).
وعليه فإنّه لا يباع العنب بالزّبيب، ولا يباع التّمر بالرّطب، لأنّ العنب والرّطب إذا جفّا نقصا.
لكنّ الله تعالى أباح بيع العرايا - جمع عريّة -، وهي: بيع ثمر النّخل دون النّخلة، كأنّها عرِّيت من ثمرها.
وصورتها: أنّ المشتري يحتاج إلى الرّطب، وليس لديه مال ليشتريه، فيبيع صاحب الرّطب تمرا خرصا.
فعن زيد بن ثَابِت رضي الله عنه أنّ النّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم: (( نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ أَذِنَ لِأَهْلِ الْعَرَايَا أَنْ يَبِيعُوهَا بِمِثْلِ خَرْصِهَا )).
الشّاهد أنّ هذا البيع منهيّ عنه لأنّه ربا الفضل، وأكل الرّطب ليس ضرورة وإنّما هو حاجة، إذ هو تفكّه ويمكنه أكل غيره، ثمّ إنّه يمكنه أن يبيع التّمر ويشتري الرّطب، ولكنّ الله رخّص لعباده ذلك، وذلك بشروط مذكورة في كتب الفقه.
وألحق العلماء بيع العنب بالزّبيب للعلّة.
ووجه إباحة الحاجة هنا للمحظور، أنّ ربا الفضل حرّم لغيره، لا لذاته.
ومن بديع ما جاء في نظم الشّيخ العثيمين رحمه الله في " منظومته الفقهيّة " قوله:
وكلّ ممنوع فللضرورة *** يباح والمكروه عند الحاجة
لكن ما حرّم للذّريعـة *** يجـوز للحاجـة كالعريّة
والله أعلم.