الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد: وعليكم السّلام ورحمة الله.
فإنّ المخالفات الّتي يقع فيها المصلّون كثيرة، وينبغي لإمام المسجد أن يستغلّ الأوقات بين الأذان والإقامة فينبّه عليها شيئا فشيئا، فإنّ العلم والبيان بالّتي أحسن هو الدّواء الوحيد لهذه الأخطاء.
كما أنّ الإمام ينبغي له أن يذكّر المصلّين بهذا الحكم قبل التّكبير، قال ابن حزم رحمه الله:" ونستحب أن لا يكبّر الإمام حتّى يستوي كلُّ من وراءه في صفّ أو أكثر من صفّ، فإن كبّر قبل ذلك أساء وأجزأه "اهـ.
- فأوّلا: ينبغي إتمام الصّفوف الأوّل فالأوّل.
- وثانيا: التّراصّ في الصّفوف.
وهذان الأمران يدلّ عليهما ما رواه مسلم عن جابرِ بنِ سَمُرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ؟!))، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ؟ قَالَ: (( يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْأُوَلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ )).
لذلك، فإنّه لا ينبغي الصّلاة في أمكنة بعيدة عن الصفّ، كمن يصلّي في الطّابق الثّاني أو السدّة مع وجود شاغر بالطّابق السّفليّ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" ولا يصفّ في الطّرقات والحوانيت مع خلوّ المسجد، ومَنْ فعل ذلك استحق التّأديب، و لمن جاء بعده تخطّيه، ويدخل لتكميل الصّفوف المتقدمة، فإنّ هذا لا حرمة له ".
- وثالثا: تسوية الصّفوف، وذلك بالأقدام والمناكب.
فقد روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ؛ وَتَرَاصُّوا، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي )) قال أنس رضي الله عنه: وكان أحدُنا يُلْزِقُ مَنْكِبَه بمَنْكِب صاحبه، وقدمَه بقدمِه.
وفي رواية عند ابن أبي شيبة قال أنسٌ رضي الله عنه:" لَقَدْ رَأَيْتُ أَحَدَنا يُلْزِقُ مَنْكِبَه بِمَنْكِب صاحبِهِ، وقدمَه بقدمِه، ولو ذهبْتَ تفْعَلُ ذلك اليومَ لترى أحدَهم كأنّه بغلٌ شَمُوسٌ ". [" السّلسلة الصّحيحة " (31)]
والبغل الشّموس هو النّافر الّذي لا يدعُ صاحبه يركب عليه، والمقصود من كلامه رضي الله عنه رفضُ بعضهم لهذه السنّة. هذا في زمانه رضي الله عنه، فكيف بغيره ؟!
فلا جرم أنّهم عندما تركوا هذه السّنّة أن تضاربت قلوبهم، وكثر الخلاف بينهم، ففي حديث النّعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ؛ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ )) [متّفق عليه].
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: إنّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم كان يُسوِّي صُفُوفَنا، حتّى كأنّما يُسَوِّي بها القِدَاح، حتّى رأى أنّا قد عقِلْنا عنه، ثمّ خرج يوما، فقام حتّى كاد يكبِّر، فرأى رجلا بادياً صدرُه من الصفّ، فقال: (( عِبَادَ اللهِ، لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ )).
كما أنّ تارك هذه السنّة يفوته الثّواب العظيم الوارد في كثير من الأحاديث الصّحيحة، منها:
- قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يَصِلُونَ الصُّفُوفَ )). [رواه أحمد وابن ماجه عن عائشة بسند صحيح كما في " صحيح التّرغيب والتّرهيب "].
- وقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللهُ )) [رواه أحمد، وأبو داود وغيرهما].
- وقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( خِيَارُكُمْ أَلْيَنُكُمْ مَنَاكِبَ فِي الصَّلاَةِ، وَمَا مِنْ خُطْوَةٍ أَعْظَمَ أَجْراً مِنْ خُطْوَةٍ مَشَاهَا رَجُلٌ إِلَى فُرْجةٍ فِي الصفِّ، فَسَدَّهَا )) [رواه البزار بإسناد حسن، وابن حبان في " صحيحه " كما في " الصّحيحة "].
- وقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ سَدّ فُرْجَةً رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَبَنَى لَهُ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ )) [رواه الطبراني في " الأوسط " عن عائشة رضي الله عنها وهو حسن كما في " صحيح التّرغيب والتّرهيب " و" السّلسلة الصّحيحة "].
- ورابعا: المقاربة بين الصّفوف.
وذلك لما رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان في " صحيحيهما " عن أنس رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( رُصُّوا صُفُوفَكُمْ، وَقَارِبُوا بَيْنَهَا، وَحَاذُوا بِالأَعْنَاقِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَرَى الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ مِنْ خَلَلِ الصفِّ، كَأَنَّهَا الحَذَفُ )).
[والحَذَف :غنم سود صغار حجازية بلا أَذناب ولا آذان، كما في " القاموس المحيط "].
هذا والله الموفّق لا ربّ سواه.