الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد، وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته.
فالتّعريض في الكلام هو ضدّ التّصريح، ومعناه: التّورية بشيء عن شيء آخر.
وما ذكرته - أخي الكريم - (( إنَّ في المَعاريضِ لمندوحةً عَنِ الكَذِبِ ))، هو من كلام الحُكماء، ولا يصحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إنّما رواه البيهقيّ في " سننه "، والقضاعيّ في " مسنده "، وابن الأعرابيّ في " معجمه " بسند ضعيف جدّا.
والمعاريض تُستعمل عند الضّرورة والحاجة لاتّقاء الوقوع في الكذب، وهذا معنى قولهم ( مندوحة عن الكذب )؛ فإنّ ( النّدح ) في اللّغة: هو السّعة والفُسحة [انظر: " لسان العرب "].
ولا يُباح اليمين في التّورية والمعاريض، وإذا ما أقسم المتحدّث وهو ينوي خلاف الظّاهر والمتبادر إلى السّامع فإنّه تترتّب عليه أحكام اليمين:
أ) فيأثَمُ إن أخبر عن ماضٍ، وتعتبر يمينا غموسا عِياذا بالله.
ب) ويحنث إن كان أقسم على فعل شيء ولم يفعله.
والدّليل على ذلك ما رواه مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ )).
لذلك كانت القاعدة في اليمين:" الحلف على نيّة الحالف، إلاّ في المعاريض فهو على نيّة المستحلِف ".
ويذكر العلماء - كما في " حاشية العدويّ "، و" بدائع الصّنائع " للكاساني، و" المغني " لابن قدامة - أنّه يباح الحلف في المعاريض لدفع ضرر محقّق.
والدّليل على صحّة ما ذهبوا إليه: ما رواه أبو داود عن سُوَيْدِ بنِ حَنْظَلَةَ رضي الله عنه قال: خَرَجْنَا نُرِيدُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَمَعَنَا وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ لَهُ، فَتَحَرَّجَ الْقَوْمُ أَنْ يَحْلِفُوا، وَحَلَفْتُ أَنَّهُ أَخِي، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ الْقَوْمَ تَحَرَّجُوا أَنْ يَحْلِفُوا وَحَلَفْتُ أَنَّهُ أَخِي ؟ قَالَ: (( صَدَقْتَ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ )).
وإنّما جاز ذلك لأنّ الحرب يجوز فيها الكذب أصالَةً، فاغتُفِر الحلف حينها في المعاريض؛ لأنّ مآلها إلى الكذب، وهو مباح في الحرب.
والله أعلم.