2- الخلطة السّيئة:
فإنّ من أعظم ما يوقع النّاس في بلايا اللّسان، إنّما هي مجالسة رفقاء السّوء، بل إنّ هذه المجالسة من أعظم أسباب الانحراف عن الدّين كلّه.
وكيف لا، وقد روى التّرمذي وأبو داود وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ )) ؟
وروى البخاري ومسلم عن أبِِي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السُّوءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ وَكِيرِ الْحَدَّادِ، لَا يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ الْمِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ أَوْ ثَوْبَكَ أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً )).
وروى التّرمذي وأبو داود وأحمد عن أبي سعيدٍ الخدرِيِّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ )).
والمراد منه: النّهي عن مصاحبة الكفّار والمنافقين, لأنّ مصاحبتهم مضرّة بالدّين.
أمّا المسلم فيُشترط فيه التّقوى والعمل الصّالح؛ لذلك قال: (( وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ )) أي: متورّع يصرف قوّة الطّعام إلى عبادة الله.
قال الخطّابي رحمه الله:" وإنّما حذّر من صحبة من ليس بتقيّ, وزجر عن مخالطته ومؤاكلته؛ لأنّ المطاعم توقع الألفة والمودّة في القلوب. وقال الطيّبي رحمه الله: فالمعنى: لا تصاحب إلاّ مطيعاً, ولا تُخَالل إلا تقيّا " [انظر " تحفة الأحوذي "][1].
وما أحسنَ قولَ أحد الصّالحين:" الأصحاب ثلاثة: صاحب كالهواء، وصاحب كالدّواء، وصاحب كالدّاء ".
فلا نعْجَب بعد ذلك من حرص السّلف العظام على مصاحبة البررة الكرام:
فتأمّل – مثلا - ما رواه مسلم عن محمّد بن سيرين قال: قال جندبٌ رضي الله عنه: جِئْتُ يَوْمَ الْجَرَعَةِ[2]، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ، فَقُلْتُ:
لَيُهْرَاقَنَّ الْيَوْمَ هَاهُنَا دِمَاءٌ ! فَقَالَ ذَاكَ الرَّجُلُ: كَلَّا وَاللهِ !
قُلْتُ: بَلَى وَاللهِ ! قَالَ: كَلَّا وَاللهِ !
قُلْتُ: بَلَى وَاللهِ ! قَالَ: كَلَّا وَاللهِ ! إِنَّهُ لَحَدِيثُ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم حَدَّثَنِيهِ.
قُلْتُ: بِئْسَ الْجَلِيسُ لِي أَنْتَ مُنْذُ الْيَوْمِ ! تَسْمَعُنِي أُخَالِفُكَ وَقَدْ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَلَا تَنْهَانِي ؟!
ثُمَّ قُلْتُ: مَا هَذَا الْغَضَبُ ؟ فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ وَأَسْأَلُهُ، فَإِذَا الرَّجُلُ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه.
والشّاهد من هذه الحادثة قول جندب رضي الله عنه:" بِئْسَ الْجَلِيسُ لِي أَنْتَ مُنْذُ الْيَوْمِ !"، ولمن ؟ لحذيفة رضي الله عنه !
ولِمَه ؟ لأنّه تركه يحلف على شيء خطأً ولم ينهَهُ !
- وروى التّرمذي بسند صحيح عن خيثمةَ بنِ أبي سَبْرَةَ قال: أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَسَأَلْتُ اللهَ أَنْ يُيَسِّرَ لِي جَلِيسًا صَالِحًا، فَيَسَّرَ لِي أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه. فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي سَأَلْتُ اللهَ أَنْ يُيَسِّرَ لِي جَلِيسًا صَالِحًا، فَوُفِّقْتَ لِي. فَقَالَ لِي: مِمَّنْ أَنْتَ ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، جِئْتُ أَلْتَمِسُ الْخَيْرَ وَأَطْلُبُهُ.
ويقصد بالخير: العلمَ، لقول الله تعالى:{وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}، والشّاهد من القصّة: أنّهم كانوا يسألون الله تعالى التّوفيق على الجليس الصّالح.
- وقال جعفر الصّادق رحمه الله يوصي ابنه:" يا بُنيّ، لا تصاحبْ عاقّا لوالديه، فقد لعنه الله ".
- وقال أحد الصّالحين يوصي ابنه:" إذا رأيت الرّجل يتهاون عن تكبيرة الإحرام مع الجماعة فانفض يديك عنه ".
وقد قال الحُكماء: الصّاحب ساحب، وقالوا: " من صاحب الكرام يُكرم، ومن صاحب اللّئام يُحرم ".
من صاحب الكرام يُكرم: ومن الأمثلة على ذلك:
ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
(( إِنَّ للهِ تبارك وتعالى مَلَائِكَةً سَيَّارَةً فُضُلًا، يَتَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ، قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ، فَيَسْأَلُهُمْ اللهُ عزّ وجلّ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ -:
مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ ؟
فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الْأَرْضِ يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيُهَلِّلُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيَسْأَلُونَكَ.
قَالَ: وَمَاذَا يَسْأَلُونِي ؟
قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ.
قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي ؟
قَالُوا: لَا أَيْ رَبِّ.
قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي ؟
قَالُوا: وَيَسْتَجِيرُونَكَ.
قَالَ: وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي ؟
قَالُوا: مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ.
قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا نَارِي ؟
قَالُوا: لَا !
قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي ؟
قَالُوا: وَيَسْتَغْفِرُونَكَ.
فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا.
فَيَقُولُونَ: رَبِّ، فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ، إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ ؟
فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ، هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ.
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:" صَاحَبَ الكلبُ أصحاب الكهف فذكره الله معهم في القرآن، ومن كرامته له أنّه أماته معهم ".
وفي المقابل من صاحب اللّئام يُحرم: ومن الأمثلة على ذلك:
روى البخاري ومسلم عن المسَيَّبِ بنِ حَزَنٍ رضي الله عنه قال: أنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ، جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، فوجد عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ ! وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ !
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم لِأَبِي طَالِبٍ: (( يَا عَمِّ ! قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ )).
فقال أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؟
فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ:
هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ! وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.[وَقَالَ: لولا أن تعيّرني قريش يقولون: إنّما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك][3] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ )).
قال العلماء:جزاء من صاحب الصّالحين ثلاثة أمور:
أ) يزيده الله توفيقا.
ب) تدركه دعوتهم في الدّنيا.
ج) تدركه شفاعتهم له يوم القيامة، قال عزّ وجلّ:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
فنسأل الله العليّ أن يوفّقنا لمصاحبة كلّ تقيّ نقيّ.
[1] (فائدة): هذا إنّما جاء في طعام الدّعوة دون طعام الحاجة؛ لقوله تعالى:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}، ومعلوم أنّ الأسرى لا يكونون إلاّ كفّارا غير مؤمنين.
[2]( الجرعة ) - بفتح الجيم وبفتح الرّاء وإسكانها, والفتح أشهر وأجود -, وهي: موضع قرب الكوفة على طريق الحِيرة.
و( يوم الجرعة ): يوم خرج فيه أهل الكوفة يتلقّون واليا ولاّه عليهم عثمان رضي الله عنه, فردّوه, وسألوا عثمان أن يولّي عليهم أبا موسى الأشعريّ رضي الله عنه، فولاّه.
[3] هذه الزّيادة ثبتت من رواية الإمام الطّبري في "تفسيره" (11/27).